بنفسج

أعياد المغتربين عن غزة: قلب يتربع فوق الركام

الجمعة 12 ابريل

أن تعيش على ذكريات العيد الماضي وتبقى عالقًا في تلك النقطة تود العودة إلى هناك حيث الأمان والسكينة، تذكر وجه العائلة الذي رأيته آخر مرة ضاحكًا مستبشرًا، ووجه البيت المنير، ومائدة العيد المغمورة بما لذ وطاب، وفجأة لا يبقى لك غير صور تؤنس وحدتك في غربتك، صورة لوالدتك وهي تعد المعمول ليلة العيد، وشقيقتك وهي ترسل لك ملابس العيد، ووالدك وهو يرسل لك صورة العيديات، وصوتهم ووجهم من خلف الكاميرا وهم يغنون بصوت عال: "يا ليلة العيد آنستينا"...

 وعلى الرغم من أن بينكم سماء وبحار وأراضي إلا أنك كنت راض برؤية أُنسهم بالعيد من بعيد ولكن هذا العيد انقلبت الدنيا رأسًا على عقب فلم يبق بيت ولا فرح، ارتفع الأحبة نحو السماء فانفطر القلب، فلم يعد للعيد معنى.هنا نحكي مع مغتربين غزيين صفعتهم الحرب كما فعلت بأحبتهم تمامًا، فارتعشوا خوفًا وهم يتابعون الإبادة العلنية بحق عائلاتهم بغزة فأعلنت قلوبهم الحداد لأجل غير مسمى.

حديث المغتربين عن غزة: أعيادنا في الذاكرة!

سيدة من غزة تصنع كعك العيد في غزة.png
سيدة غزية تصنع كعك العيد في أحد مخيمات النزوح في غزة

المغتربة نجلاء نجم المقيمة في تركيا ممن أصابتهم الحرب في عمق القلب، انقطع الاتصال بعائلتها في غزة مرات ومرات فلم تعد تعرف هل هم على قيد الحياة أم لا، وحين عاد الاتصال صُعقت بخبر استشهاد شقيقتها إسراء، فصغرت الحياة في عينيها، وفي أيام العيد فُتح جرحها الذي لم يُغلق بالأصل، فأخذت تستذكر ذكرياتها مع الأشقاء في أيام العيد وما قبله.

تقول لبنفسج: "هذا العام لا توجد أي ملامح تدل أننا في العيد، أجلس أتذكر وأعرف أن الذكرى ستعصر قلبي، فمثل هذه الأيام، أفتح الكاميرا مع عائلتي كثيرًا لأرى ماذا جهزوا للبيت، أسمع صوت أبي وهو يخبرني عن كمية "الفسيخ" التي اشتراها لتسعد أمي بها، أتذكر "عراك العيد"، فمثل هذه الأيام كنت أرى أخواتي وهن يتدللن كل يوم ليذهبن للسوق لشراء الثياب الجديدة، ويتعاركن لأن أختي الصغيرة "ذوقها صعب" ولا يعجبها شيء".

لا يستوعب عقل نجلاء انقلاب الحال بهذه الشراسة فمن الأيام السعيدة إلى أيام شديدة البؤس، كل ما حولنا يدفعنا نحو البكاء لآخر العمر، تضيف: "أعيش بكابوس الذكريات، فهذا العيد لم تخبرني أمي عن خطتها بإحضار فناجين قهوة جديدة لاستقبال الضيوف، أو عن تنظيفها كل شبر في بيتنا، الحقيقة لم يبق بيت ولا ضيوف".

إن الفقد ينخر القلوب بشدة فتُطبع ندبة لا تزول على جدار القلب، ويستمر الجرح في نزيفه لما لا نهاية، فقدت نجلاء شقيقتها إسراء، ولم يتبقى لها سوى بضع صور لها وهي تعد حلوى العيد، ما زالت تذكر صوتها جيدًا وهي تؤكد عليها بأن تفرح بمراسم العيد وتشتري الثياب الجديدة له وتمارس طقوسه كأنها معهم في البلاد، فيعز عليها أن لا يرن هاتفها ويصدح صوت إسراء وهي تغني لها: "العيد فرحة".

"أفتقد كل شيء، لا أخفيكِ حتى أني اشتقتُ لدموعي وأنا أبكي "دلعًا" لأن هنا لا شيء يشبه عيد غزة..هذا العام لا يشبه شيئًا من العام الماضي، لا أعرف كيف سأكتب أن هذا أول عيد بدون صوت إسراء، أو مكالمة فيديو مع الأشقاء، أو تجمعات العائلة في أيام العيد".

تخبرنا والهم والحزن قد استوطن قلبها ونال منها، "خرجتُ قبل يومين لأشتري بعض الحاجات المهمة، رأيتُ الناس وهم يتجهزون للعيد، يضحكون، ويشترون الثياب والحلويات، صدقًا شعرت بوخزة وددت لو لم أرَ كل هذا، الحزن لم يلبس أهلي في غزة فقط، الحزن لبسني وسكنني، لا أعرف كيف يمكن أن أستقبل حلوى من جارتي بمناسبة العيد، وجثامين أصحابي ما زالت تحت الأنقاض".

ومن كغزة في العالم كله، كل شيء مختلف فيها، صوت الشوارع، ضحكات الأحبة، ليالي العيد البهية، ولكنهم مسحوا ذاكرة المكان فلم تعد أماكننا الصديقة قائمة، ولم نستقبل العيد كما اعتدنا كل عام، تردف نجلاء: "افتقد كل شيء، لا أخفيكِ حتى أني اشتقتُ لدموعي وأنا أبكي "دلعًا" لأن هنا لا شيء يشبه عيد غزة..هذا العام لا يشبه شيئًا من العام الماضي، لا أعرف كيف سأكتب أن هذا أول عيد بدون صوت إسراء، أو مكالمة فيديو مع الأشقاء، أو تجمعات العائلة في أيام العيد".

أعيادنا حين تنتهي الحرب ونعود لبيوتنا

العيد في غزة.png
إقامة صلاة العيد بين الركام في غزة

أما منة خالد المقيمة في القاهرة منذ السابع من أكتوبر وهي في حالة أرق دائم، تنام والهاتف بيديها، تتابع الأخبار أول بأول، وكل ما يخص حي الشيخ عجلين التي تقطن به عائلتها، كانت تظن أن الغربة هي أصعب ما يمكن أن يحدث للإنسان لكنها وجدت ما هو ألعن وأشد فأن تكون خارج الحدود وعائلتك تواجه الموت من مسافة صفر هو أعنف ما يمكن أن يحدث، تقول بصوت واهن: "الحرب ما خلت شي على حاله العيد كان عنا طقوسه حلوة، راح البيت وراحت كل الأماكن اللي كان العيد حلو فيها، عازز علي ارجع بشي يوم غزة وما أشوف المدينة اللي بعرفها".

تكمل منة: "لا أعرف ما الذي ينبغي أن يفعله الغزي ليخفف عن نفسه مراراة الغربة والفراق وفوق كل ذلك الحرب، فنحن نمارس حياتنا مجبورين، لا أتخيل أنني لن أستيقظ صبيحة العيد لاتصل فيديو على عائلتي بغزة لأريهم مائدة العيد لدي، كنت أحاول قدر المستطاع أن أكون معهم من خلف الشاشة كل عام، ولكن هذا العيد مسمى فقط لا شيء يشبه العيد فيه".

ماذا عن السفر تحت القصف وأنتِ كمرافق لمريض؟ تجيب آية جودة: "إن الشيء الأصعب على الإطلاق أن تترك عائلتك تحت خط النار مجبورًا، فأنا كان لزامًا عليَّ أن أرافق ابن شقيقي المريض للعلاج في مصر، فأن تمارس عملك بالمشفى وتهتم بالصغير المريض الذي يتأفف من إصابته أمر صعب للغاية، فلا مواساة كافية تخفف عنه إصابته وابتعاده عن العائلة".

تغرق آية في ذكرياتها القديمة، ومع أنها ممن ليس لديهم طقوس خاصة في العيد إلا أن الاشتياق يغمرها إلى عيد غزة الذي لا يشبه أي عيد في العالم، تشتاق لصوت المسجد القريب من منزلهم وهو يصدح بتكبيرات العيد، ورائحة الفسيخ والمعمول، تضيف: "عيدي الحقيقي وقتما أسمع خبر انتهاء الحرب تمامًا، وعودتي لغزة حيث بيتي وغرفتي، أنا لم أستوعب بعد حجم ما خسرنا أشعر وكأننا وضع لنا "بنج" ما زال مفعوله قائمًا وحين نستيقظ سنتواجه وجهًا لوجه مع ما جرى".

تختم آية حديثها لبنفسج: "بحس بحسرة كل مشوف صورة مكان من الأماكن اللي تعودنا نروحها بالعيد ويكون تدمر أو حدا من الناس الي كانوا معانا صارله اشي أو صار لحدا من عيلته اشي، حتى لو اجا عيدنا السنة الجاية بدون حرب ولا شي رح يرجع زي ما كان لا قلوبنا ولا أماكننا اللي بنحبها".