بنفسج

ذكرى ميلادي في الحرب: أتمنى أعوامًا سعيدة

الإثنين 22 ابريل

بعد استراق ساعتين من النوم المتقطع خلال ليلٍ طويلٍ مرهق قضيته بالسهر مع صغيرتي "مي" على أصوات الزنانات والانفجارات المتداخلة، حان الوقت لترك الفراش. لا يوجد وقت إضافي لمزيد من الراحة. أخرج من غرفتي، وبالأصح غرفتي ووالديّ وإخوتي وأطفالي، لأجد طفلي "محمد" جالساً مع والده في صالة المنزل والتي اُعتمدت في الحرب على أنها مكان نوم الرجال.

أمشي نحو المرحاض ساخرةً من الأسئلة التي تدور في عقلي وناقمةً على حالنا، هل سأنتظر دوراً طويلًا لدخوله؟ وإن وصل دوري هل سأستغرق وقتًا أطول في تنظيفه قبل استخدامه؟ هل سيكون لدي وقت كافٍ لأغسل وجهي وأنظف أسناني أم ستلاحقني طرقات أصابع أحدهم ليستعجلني بالخروج؟

يدركني الوقت ما بين تغيير حفاضات وملابس الأطفال وإرضاع مي والتحايل على محمد ليفطر، لكنه لا يريد سوا البيض كما اعتاد، كيف يمكن لحبيبي الصغير أن يعي ما آلت إليه الحرب؟ وأن البيض الذي يحب ويريد أصبح سعره خياليًا يصعب شراءه كل يوم! ثم سرعان ما أجد نفسي جالسة أمام كومة ملابس متسخة مليئة بآثار الحطب ببقعه السوداء التي أعرف مسبقًا أن يداي المرهقتان لن تقويا على إزالتها فأطلب مساعدة أمي وأفكر.. كم كان يجب علينا تمجيد فعل الغسالة قبل الحرب!

يقطع تفكيري بكاء مي طلبًا للرضاعة من جديد، ما إن أصلها حتى يبدأ محمد بالبكاء أيضاً فأظنه يريد لفت نظري عنها إليه، فيخيب ظني عند قوله بلكنة طفولية: ماما أنا عيان. تبدو عليه أعراض الإنفلونزا جلية، لكنه لم يُشف بعد من النزلة المعوية! بت لا أعرف تحديد خوفي على جسده الصغير والذي يزداد نحولةً يومًا بعد يوم يكمن في كثرة تناول الأدوية أم في كثرة الأوبئة والأمراض، ولا أعرف إن كنت أخاف عليه في مرضه أكثر أم أخاف من أن تُنقل العدوى لأخته التي لم تتجاوز الشهر بعد أكثر!
عندما يحين وقت الغداء، تبدأ معضلة أكبر.

ماذا لدينا لنأكل؟ انقطع الدجاج، وارتفعت أسعار اللحوم والأسماك إن وُجدت حتى كادت تنافس الذهب في الغلاء كما يقول الأهالي ساخرين. لم يتبق لدينا خيارات كثيرة، أرز أو عدس إن كنا محظوظين، ومعلبات لأغلب أيامنا. ماذا سنختار اليوم؟ فاصولياء أم بازيلاء أم حمص أم فول أم لانشون الدجاج؟ يصيبني الضيق من حالنا فأتذكر أن أقاربي في غزة وشمالها لا يجدون هذه الخيارات على قلتها، فيتملكني الشعور بالذنب لأني أشبع من طعام لا أحبه ويُمرضني.

يُخرجني من ضجيج أفكاري دخول زوجي حاملًا على كتفيه ابننا محمد وبين يديه قطعة كرواسون تضيئها شمعة عيد الميلاد، يصفق ابني ويغني زوجي سنة حلوة يا جميل! لا أعلم من أين أتى بالشمعة، ولا كيف نسيت عيد ميلادي، لكني أعلم اني سأنتظر السنة الحلوة! يا رب..

ما إن نضع الطعام لنأكل حتى تقاطعنا أصوات انفجارات قوية فيهرع الجميع بحثاً عن أطفاله وأمانه. رأيت صغيري يُدثّر نفسه في حضن أبيه، فأتركه وأركض نحو الغرفة لأطمئن على طفلتي النائمة فأجدها بين يدي خالتها تقرأ لها القرآن علها تهدأ.
يبقى صغيري خائفاً لا يريد أن يأكل، ولا يتحرك من مخبئه وحضن أبيه، أحاول إطعامه لكن لا فائدة، لا يقول سوا: ماما بوم بوم، بوم بوم. ولا يُنسيه خوفه سوا فرحته بإطعام دجاج الجيران بقايا الخبز والطعام.

أتمدد قليلًا على فراشي الذي يكاد يلتصق بالأرض وأشعر ببرودتها تتسرب لظهري، أحمل هاتفي وأقلب في الصور، وأتحسر على ذكريات مضت ولن تعود. وصلت لتاريخ بعد السابع من أكتوبر، فوجدت صور حي أهلي المدمر تعترضني، لقد تغيرت ملامحه فلم أعد أعرفه، أحاول جاهدةً معرفة منزل أهلي فأجده ركاماً!

أكمل البحث في الصور لأرى منزلي لكني لم أجده، لم يتبق منه شيء فقد دمروه كلياً، حتى ركامه اختفى! أُمعن النظر في الصور باحثةً عن غرضٍ واحدٍ ليبقى لي ذكرى، فلا أرى سوا مخدتي الناعمة ملقاة على رصيف الشارع. تمنيت لو أمكنني اختراق الهاتف واحتضانها طويلًا، فأشكو لها قلة حيلتي ومرارة أيامي، ثم أنام مطمئنة أنها بالغد ستمحو آثار دمعي. أنظر لصور عيادتي وزوجي لأجدها أيضاً مدمرة لا تصلح للعمل، فيبقى السؤال الذي يتردد صداه في كل مكان من حولي، كم مرة يجب على الغزيّ أن يبدأ حياته من الصفر؟

يُخرجني من ضجيج أفكاري دخول زوجي حاملًا على كتفيه ابننا محمد وبين يديه قطعة كرواسون تضيئها شمعة عيد الميلاد، يصفق ابني ويغني زوجي سنة حلوة يا جميل! لا أعلم من أين أتى بالشمعة، ولا كيف نسيت عيد ميلادي، لكني أعلم اني سأنتظر السنة الحلوة! يا رب..