بنفسج

طبق من السَلَطة: في شمال غزة الصامد

الإثنين 22 ابريل

للوهلة الأولى يبدو صحنًا عاديًا من السلطة..هو بالفعل صحن من السلطة لكنه ليس عاديًا على الإطلاق!إنه صحن السلطة الأول بعد أشهرٍ قطع الاحتلال خلالها تدفق المساعدات بما فيها من خضروات وفواكه إلى شمال غزة، وهو ما أوصل النوادر المُسرَّبة منها إلى أثمانٍ ليست باستطاعة أغنى الأغنياء فيها.

الصحن لصديقتي "منى الأميطل" المرابطة في شمال غزة، والتي أمطرتها طائرات الاحتلال بمئات المناشير -كما تسمِّيها لي- الآمرة بالإخلاء والفارضة للنزوح والمتوعدة بالتنكيل حال البقاء، ولم تفكر هي أو عائلتها بالاستجابة لها، وأذكر لها أبرز ما قالته لي في أحلك أيام الحرب "احنا بنحب البلاد" .. "صعب نترك" .. "بتعزّ علينا غزة".

نمتُ أيامًا كثيرة وآخر ما أفكر فيه هو منى، بعد أن نمنا لسنواتٍ قبلها نتشارك الأحلام ذاتها، كلانا على أرضه، في مجال الإعلام الذي نتبارى في حبه، مضيتُ في السعي لكن لفَّ قلبي الخجلُ من الاستمرار دونها بالحلم آخر كل ليلة؛ فانصرفت عن الحلم إلى التفكير فيها، وكاد فضولي يدفعني في أكثر من موضع لسؤالها إن كانت تنام، ولكني -في كل مرة- فضلت التراجع بعد كتابة سؤالي عن إرساله مثل أسئلة غيره كثيرة كالسؤال عن مكان بيتها لأنه بالمعنى الوحيد الذي يحمله في توقيت كهذا سؤال قاسٍ، جارح، ومرعب.

ألم يُصب منى الوهنُ أبدًا؟!ألم يعرف الخوف لقلبها طريقًا طوال هذه الفترة ؟!بلى -يا عزيزي-، ضعفت منى وخافت؛ لأنها إنسانة وما حدث حولها من وقائع يجعل الولدان شيبًا وتخِرّ له الجبال هدًّا..بل يزيدها في نظري بطولةً أن الضعف والخوف لم يجعلا النزوح أو مغادرة غزة أفكارًا قابلة عندها للنقاش، ولم يتصدر حديثها معي غير لعنِ الاحتلال والدعاءِ لمصرَ بدوام الاستقرار، ولو استحالت هذه الأفكار يومًا مطروحة فلن يُنقص ذلك من بطولتها شيئًا.

ألمس في حديثنا دومًا استنكار منى بطولتَها في عينيّ والذي تحاول الإبقاء عليه دفينًا؛ حاولت أنا أيضًا التحدث معها بشكل عادي ككل أصدقائي، وباءت محاولاتي بالفشل..فرغم أن القدر لم يمنّ علينا باللقاء؛ لم تكن منى أبدًا شخصًا عاديًا في حياتي حتى قبل السابع من أكتوبر، إلى جانب تفرُّد شخصيتها وحبها الشديد لمصر فهي غَزِّية، ومتى كانت غزة وفلسطين كلها بكل من فيها وما فيها عادية في قلوب المصريين ؟!

وكأن منى بإصرارها على "عاديتها" تخبرني دون حديث بأن هذا حال أصحاب الأرض وما نراه كل يوم من تَكتِّل في مطار بِن غوريون للفرار هو المتوقع من سارقيها؛ بالمخاطرة بأرواحهم والاستعداد التام للفداء بدمائهم يرفع أصحابُ الأرض قيمةَ ثراها إلى الثريا، بينما يفرّ السارق هاربًا في أقرب فرصة.

أذكر قشعريرةً سَرَتْ في جسدي فور ما راسلتني للمرة الأولى للمشاركة بالكتابة في "بنفسج" وأخبرتني أنها فلسطينية من غزة، ولا أنسى كيف انهلْتُ عليها بالمقال تلو الآخر في حماسٍ شديد على غير عادتي مع غيرها من المنصات، حالي معها حال عم ربيع بائع البرتقال مع أهل غزة، وحالنا جميعًا مع كل ما يلمس القضية من قريب أو من بعيد، في الصدارة كانت أو سبقتها قضايا أُخر، الحقيقة الثابتة أنها بقيت حيَّةً في قلوبنا دائمًا.

بالنظر في محادثاتنا طوال أشهر الحرب الستّ لم أجد من منى في أصعب الأوقات ما يخلع عنها رداء البطولة، وليس ثمة زاوية واحدة أرى من خلالها منى عادية كما تريدني أن أفعل، وهل يظلُّ إنسانٌ عاديٌ في بيته بينما يرى نار الاحتلال تطول كل ما حوله؟!

عن غير عمدٍ منها وفي صورة لشريحتيّ خبز مصنوعتين من الطحين الآدمي أرسلتها لي وقد التقطتها إلى جانب نافذة من نوافذ بيتها المهشَّمة تكشَّف لي حجم الدمار الذي ألمّ بكل ما يطلُّ عليه البيت، وهي بين كل هذا الدمار صامدة باقية كل ما يُشقيها هو صوت "الزنانات" وحنينها لأيامها وأحلامها قبل الحرب، لم تتفوه في أي حديث بيننا -ولو لمرة- بما لا يصحّ رغم أن الأهوال التي تابعناها صوتًا وصورة تُبيح كل ما كان قبلها غير مباح.

وكأن منى بإصرارها على "عاديتها" تخبرني دون حديث بأن هذا حال أصحاب الأرض وما نراه كل يوم من تَكتِّل في مطار بِن غوريون للفرار هو المتوقع من سارقيها؛ بالمخاطرة بأرواحهم والاستعداد التام للفداء بدمائهم يرفع أصحابُ الأرض قيمةَ ثراها إلى الثريا، بينما يفرّ السارق هاربًا في أقرب فرصة.مازلتُ على العهد يا منى، في انتظار زيارة منكِ جديدة إلى مصر وأنتِ بخير حال وقد غمر غزة وأهلها السلام؛ وهذه المرة لا مفرَّ لنا من لقاء.

شيء بسيط أودّ تعديله؛ فقد كان العهد في أول الحرب يتضمن أن تحملي لي في زيارتكِ بعضًا من زيت زيتون فلسطين، أستبدله اليوم بعد كل ما جرى وكمصريةٍ تعرف قيمةَ الأرض حق المعرفة بحِفنة من تراب غزة المعطر بدماء شهدائها، أحفظها في أَفخر مزهريات بيتي إلى يومٍ أردّ لكِ فيه الزيارة وتحتضنه راحتيّ قدمي احتضانًا تعتذران له به عما لاقاه وتحملان عنه بعضًا من الدماء التي خضَّبته.دمتِ بعاديتِكِ بطلةً يا منى ..وعدتِ لأحلامكِ بخيرٍ وسلامٍ وبأجنحةٍ أقوىطبق