بنفسج

" جمال الدين محمد أبو العُلا": اسم سنحفظه جيًدا

الثلاثاء 23 ابريل

اسمٌ وددت أن أعرفه منذ الثالث عشر من فبراير الماضي، اليوم الذي شاهدتُ فيه ڤيديو لشابٍّ يبدو في منتصف العشرينات يرتدي زيَّ الحجر الصحي ويسير مكبل اليدين معصوب الرأس برباط ذهبي برَّاق في هيئة عامة تبدو شديدة الغرابة إن لم تكن مثيرة للهلع.
يشرح الڤيديو أنه معتقل غَزِّيّ مضى مُكرهًا من قبل الاحتلال باتجاه مجمع ناصر الطبي في خان يونس مُكرهًا لإبلاغ الجميع بأوامر الاحتلال بالإخلاء وهي -بالمناسبة- ذات الأوامر التي سمعتُ قوات الاحتلال في ڤيديو آخر تنادي بها بنفسها من داخل آلياتها بأبشع الطرق وأوضع السِّباب.

دخل الشاب في هدوء وأبلغ الرسالة ثم خرج خوفًا من تهديدهم له بقتل أمه وزملائه من المعتقلين في حال بقائه داخل المجمع، وتُخمِّن اليوم قنوات الأخبار في تقاريرها عنه أنه خرج ظانًّا أن مصيره لن يزيد عن استكمال اعتقاله لأيامٍ أو أشهرٍ ففاجأه الاحتلال الغاشم بثلاث رصاصات استقرت في جسده وأردته شهيدًا، ولكني لم أرَ أي دليل يُرجح صحة تخمينهم في عينيه الغائرتين كأنما هما لشهيد يتحرك.

في اللقطات القصيرة التي عرضتها القنوات الإخبارية كان يتحرك بهدوءٍ وعفوية يزيدان مظهرَه غرابة، رغم ما على وجهه من إيمانٍ بغدر هؤلاء الذين لا يُتقنون شيئًا قدر ما يتقنون الغدر؛ بدا شخصًا مسالمًا لأقصى حدٍّ ممكن وهو يمشي مُسرعًا إلى حيث يقع مدخل المجمع ويعجز مثلي حتى عن توقع ما قد يدور بخلد مثله في لحظات كهذه.

هزّ كياني مشهده بذات القوة التي هزَّتني بها المعمداني، حُفرت في ذهني ملامحه وتعابير وجهه المُترعة بالرصانة والتسامح إلى درجة لا تناسب هول الموقف، وأثر بقلبي محاولاته الواضحة لاستجماع تركيزه، ولأول مرة أبحث عن اسم شهيد بهذا الاهتمام والإصرار على معرفته، لم أعرف لأي من هذا سببًا أكثر من خشيتي عليه أن يُنسى، فالفواجع كثيرة والأهوال كل يوم كالدِّيم الذي لم يعد يعلم الناس لشدته أيها ينبغي أن يذكروا وأيها يجب ألا يغيب عن ذاكرتهم أبدًا.

بعد مرور أكثر من شهر، وبعدما ظهرت والدته -أسأل الله لها الصبر والثبات- تقصُّ تفاصيل ما حدث لابنها، في اللحظة التي عرفتُ فيها اسمه اكتشفت السبب الحقيقي وراء بحثي القديم عن هويته مع اكتشافي رغبة بداخلي عارمة لأن أُخرج رأسي من أكبر نافذة في بيتي وأن أصرخ باسمه صراخًا متصلًا لا يقطعه سوى البكاء.بأي ذنب قُتل هذا المغدور يا من لا تعرفون العهد أبدًا ؟!
بأي ذنب قُتل جمال ؟! وبأي ذنب قُتل الأصدقاء الأربع العُزَّل السائرين وسط الركام متفقدين حطام بيوتهم ؟!بأي ذنب سالت كل هذه الدماء ؟!

دخل الشاب في هدوء وأبلغ الرسالة ثم خرج خوفًا من تهديدهم له بقتل أمه وزملائه من المعتقلين في حال بقائه داخل المجمع، ففاجأه الاحتلال الغاشم بثلاث رصاصات استقرت في جسده وأردته شهيدًا

للحمض النووي ذاكرةٌ حديدية تجعله يحتفظ لأجيال تلو أجيال بموروثاتٍ من الملامح والصفات والسلوكيات لا تخطرُ لبشرٍ على بال؛ لكن أي حمض نووي قذر ذاك الذي تحمَّل أن يتناقل هذا المزيجَ من الوحشية والوضاعة من جيلٍ ذبح يحيى ونشر زكريا -عليهما السلام- إلى جيل حاول صلب عيسى -عليه السلام- ثم إلى جيلٍ كالذي نراه ؟!

كأن قلوبهم على مرِّ العصور لم تكن غيرَ امتدادٍ إضافيٍ لمعدة شرهة للدماء، ويبقى سؤالي دائمًا : هل يصدق هؤلاء القوم فعلًا أن "شعب الله المختار" قد يقتل ما يزيد على 32000 إنسان؛أكثر من ثلثيهم من الأطفال والنساء، بأبشع الطرق والأساليب، خلال فترة لم تتجاوز الستة أشهر ؟!الخلود لجمال ولأمه ولأخيه ولكل مَن هم مثله ممن لم تصلنا صورهم ولا قصصهم، والموت لإسرائيل!