بنفسج

غالية حمد: يوميات الحرب خلف كواليس البث المباشر

الأربعاء 24 ابريل

من موقع عملها في التغطيات، من تلة مرتفعة، في مناطق النزوح، من مكان أضحت فيه بعد أن اضطرت إلى ترك بيتها...صوت الزنانة في خلفية مشهد تبكي فيه غالية، تقول: "اشتقت لبيتي، أول مرة بكون قريبة هلقد، خمس شهور بعاد عن بيوتنا، وصراحة أصعب أيام في العمر، إن شاءلله نرجع في الأخير...".

غالية التي تميزت في تغطيتها بين الناس، بين حشود الأطفال، مع النساء، مع الأمهات على وجه الخصوص، غالية حمد التي عرفت بمشهد شهير تصطحب فيه ابنتها غلا أثناء التغطيات، بمشهدها الطريف في لقائها الطفل عبد العزيز عندما سألته: "كيف الحياة بغزة يا عبد العزيز؟ فأجابها إجابة طريفة عفوية ضحكنا عليها جميعًا."

يوم في الحرب خلف كواليس البث المباشر 

 "اسمي غالية علي حمد، صحافية فلسطينية، تخرجت في الجامعة الإسلامية عام 2012. متزوجة وعندي بنتان، الأولى عمرها ثمانية سنوات، والثانية أربعة سنوات".
 
 "عادة، أنا بصحى بدري كتير، بجهز بناتي بفطرهم وبطلع عالشغل، وبضل موجودة لحد نص أو آخر النهار بروح بين الساعة [ 2 و3]، وبرجع تاني بالليل لتغطية تانية، وبروح عالبيت أنام، فحرفياً اليوم كله معبى، وما في وقت كافي أقعد مع بناتي وأشوفهم"

عن التفاف الأطفال حولها يسألونها عن أخبار الحرب والهدنة، عن لقائها أمام  أطفالها عندما كانت تتطهو لهم، عن لقائها طفلًا هو الناجي الوحيد، عن لقائها فتاة تطلب الخروج للعلاج، عن تغطياتها في مستشفى الشفاء وجموع المصابين والجرحى تأتي تترا إليه. عن البث المباشر أمامها والعدو الذي خلفها.

عن تأثرها باكية في استذكارها، أثناء بث مباشر على قناة الجزيرة قالت فيه: "لا أستطيع التأقلم مع هذا الواقع، اسمحوا لي أن أذكر موقفًا حصل بيني وبين زوجي قبل أيام، ونحن نقلب ألبوم الصور قبل الحرب، وكانت هناك صور لبناتي وهن يأكلن العنب، وهي الفاكهة المفضلة لهن، التفتنا إلى العنب وليس إلى بناتنا، فقلت له لم نر العنب منذ وقت طويل وبناتنا يطلبنه باستمرار، ويطلبن أطعمة بسيطة، كانت من أساسيات البيت، ويطلبن أشياء بسيطة: "ماما بدنا تفاح، ماما بدنا ... فأقول لهن: ماما انسوا أي إشي عشتوه قبل الحرب، نحن الآن نعيش حياة جديدة. وأنا ككل أمهات غزة أواجه ما يواجهنه، هذا واقع وعلينا أن نواجهه، ولكن الأطفال لا يفهمون هذه المعادلة".

"بنتي يوم استهداف الصحفيين قلتلي ماما ما بدي تطلعي خلص بقصفوا الصحفيين، وأنا بخاف يصرلك إشي، هاي بنتي الكبيرة، عمرها 8 سنوات، وكان هاد كتير صعب علي أتجاوزه وأطلع، بس يعني ظروف المهنة بتحكم دائمًا، وإنه هادا واجب كمان خاصة في الحرب، بنحاول نكون موجوديين فيه."

وفي بنفسج كان لنا هذا الحوار مع غالية، وبادرنا بطلب التعريف عن نفسها في الحرب، في حضورها وفقدها ومشاعرها وعائلتها وبيتها، فأجابت بصوت غالية المعهود، في الحرب، فقد تغيرت غالية مع الحرب، وفقدت الكثير كباقي الغزيين : "اسمي غالية علي حمد، صحافية فلسطينية، تخرجت في الجامعة الإسلامية عام 2012. متزوجة وعندي بنتان، الأولى عمرها ثمانية سنوات، والثانية أربعة سنوات".

سألنا غالية، بعد مشهد اصطحاب ابنتها غلا لها في التغطيات، وعن بحثها على مكان آمن في غزة، وهو أمر شبه مستحيل، قالت غالية: "الصراحة كتير الموضوع صعب فوق الوصف، وتعلمون، الأوضاع خطيرة، وفي الحقيقة بنتي يوم استهداف الصحفيين قلتلي ماما ما بدي تطلعي خلص بقصفوا الصحفيين، وأنا بخاف يصرلك إشي، هاي بنتي الكبيرة، عمرها 8 سنوات، وكان هاد كتير صعب علي أتجاوزه وأطلع، بس يعني ظروف المهنة بتحكم دائمًا، وإنه هادا واجب كمان خاصة في الحرب، بنحاول نكون موجوديين فيه."

وتضيف:" من سابع أو سادس يوم بالحرب تركت مدينة غزة ونزحت إلى بيت عائلتي في الزوايدة، وبعدها نزحنا إلى خانيونس، وبعدها نزحنا إلى رفح إلى الخيام، وفي كل هاد الوقت كانوا أهلي معي. وكنت أخلي بناتي معهم، حتى أقدر أقوم بواجبي المهني والإنساني. والحقيقة بناتي كانوا نقطة ضعفي، خصوصًا في مواقف حياتهن وتفاصيلها قبل الحرب، وعن تحولات أسئلتهن بعد الحرب: وين صاحباتنا؟ وين أغراضنا؟

قبل أيام قليلة استشهدت صديقة ابنتي وهي بنت أصدقاء لنا، وكانت كتير بنتي زعلانة وكانت تقول اشتقتلها بدي أشوفها، ولما روحت بتقلي ماما بدنا نروح نزورهم، بعدين اتزكرت وبكت. أصبحت الأم تعيش ويلات مركبة، ووجع لا يطاق وتحمل حزن الأطفال وفقدهم، وهاي الحرب الوجع كان نصيب الكل والفقد نصيب الكل".

واستدركنا بسؤالها عن يوم من أيامها في الحرب والعمل، فأجابت: "عادة، أنا بصحى بدري كتير، بجهز بناتي بفطرهم وبطلع عالشغل، وبضل موجودة لحد نص أو آخر النهار بروح بين الساعة [ 2 و3]، وبرجع تاني بالليل لتغطية تانية، وبروح عالبيت أنام، فحرفياً اليوم كله معبى، وما في وقت كافي أقعد مع بناتي وأشوفهم. بهون ع حالي وبحكي: في كتير ناس هيك عايشين في ناس فقدت أطفالها. في 14 الف طفل هم ضحايا هاي الحرب، هم بس إلي تسجلوا عدا عن الأطفال الي انقتلوا تحت الأنقاض لسا ما حدا انتشلهم".

غالية حمد: معاني الحياة التي غيّرتها الحرب 

غالية حمد مع عائلتها.jpg
صورة للصحافية غالية حمد مع زوجها وابنتيها قبل حرب طوفان الأقصى 

وعن نظرتها إلى الموت والحياة في الحرب تقول غالية: "الحرب غيرت نظرتي للحياة مرة وللأبد، الموت مش مخيف، المخيف هو إنه نسيب حدا من أفراد أسرتنا، أو حدا يسيبنا ونضل لحالنا، هاد الصراحة إلي بنخاف منه. أما العائلة الي بتروح كلها مع بعض هاي نهاية بتوقع كل أهل غزة صاروا مش خايفين منها، ولكن صاروا بتمنوها، فعلياً قربنا من إنه إحنا نتمنى الموت.

وهاد الشعور بزيد، لأنه إحنا حاسين بخذلان عالمي وعربي إلنا، والخذلان مرّ، أصعب من القتل ومن الموت بكتير. يعني البيت والسكن والطعام نِعم كلنا مش حاسين فيها، والآن صارت نظرتنا إلها نظرة حدا فقد نعمة، وإلي بفقد نعمة وبيرجع ياخدها كتير بحس فيها وبقدرها. لم يعد هناك ما هو مضمون في الحياة، كل شي ممكن ينقلب في لحظة، والي أكثر من هيك إنه جارك عدو قاتل بيفتخر إنه بقتل النساء والأطفال ويدفهن تحت ركام منازلهم".

"أخبرت عن حالات سيدات تعرضن للتعرية وللتحرش وللاغتصاب، وما حدا بتكلم عنهم، ولا زال هذا العالم ينكر هذه الويلات، بينما يتهم ويقف عند اتهامات وادعاءات كاذبة، ولا يوجد عليها أدلة، في يوم السابع من أكتوبر، وأثبت أن هذا العالم يكيل بمكيالين، وهذا أقسى ما عشناه في الحرب."

نعلم أن الاحتلال يستهدف الصحافيين على وجه الخصوص، ومنهم 126 صحافيًا وصحافية، كلهم زملاء وأصدقاء ويعرفون بعضهم البعض، والفقد فيهم واحد، وغالية فقدت أعز صديقتها، وهي الصحافية في منصة بنفسج، آلاء الهمص، رحمها الله وتقبلها، فارتأينا الحديث عنها، بل واستذكار الأصدقاء وعن حجم الألم فيهم، وبالفعل، كانت غالية قد غمرتها صدمة شديدة جعلتها تغيب عن كل شيء، تقول:

"الفقد مستمر، فقدت أعز صديقاتي، فقدت أقاربًا، فقدت أناسًا قريبون مني وجيران، كتير كتير بالفترة الأخيرة، كتير راحو جيران إلنا، فالفقد وحدة من الأشياء إلي جداً مؤذية ومؤلمة بهالحرب وموجعة. بهاي الحالة طبعاً إنتَ رح تكون أقرب منك للموت منك للحياة. واستهداف صاحبتي آلاء لمرتين ورحلة استشهادها، ورحيلها ووجعي برحيلها ما بقدر أتكلم عنه بالكلمات، لكن رح يبقى جرح بقلبي، جرح أنا بحسه بقلبي. والله يوم ما استشهدت حسيت أنا يمكن يصيرلي إشي من كتر ما كنت متأملة إنه هي رح تطلع خلال أيام، وقالولي تحسنت ورح تطلع، ما كنت أقدر أزورها، ممنوع الزيارات.

وكنت بنتظر يحكولي هيها طلعت من المستشفى، لما استشهدت كانت صدمة قوية جداً عليّ، عملت ردت فعل قوية وانجرحت، إنه ضل ابنها إلي وهبتله حياتها، يتحسر عليها وعلى غيابها. فما في حدا عنده حصانة اليوم، بالعكس، النساء والأطفال هم الهدف المفضل لإسرائيل في الحرب لن ننسى الحرب، كلها رح تضل ذكرى مؤلمة وموجعة، إن نجونا منها، وكلنا بنحكي إنه إحنا مشاريع شهادة".

وعن السؤال الذي يحير الجميع، كيف يستطيع الغزيون تحمل كل هذا الألم، والفقد، والجوع، والدمار، وجهنا السؤال لغالية، فقالت:"طول عمرهم الغزيين وأهل غزة بيختطفوا الحياة من فم الموت، ومن فم الحصار والضغط الإسرائيلي والتضييق علينا إلي كان يمنعنا نسافر ونعيش حياة طبيعية، نحس يوم إنه عايشيين بأمان، بس هاي الحرب بتوقع كل الناس صارت قريبة من إنه تفقد الأمل بهاي الحياة، مش من قسوة الحرب مع إنه قاسية جداً، ولكن من قسوة الخذلان، إحنا متروكين مع أنفسنا، ما في إلنا لا ظهير ولا نصير، ولا سند، في هالحرب لا في قوة عربية ولا دولية تقول كلمة حق بحقنا".

وعن مشاهداتها كصحافية تغطي الأحداث والمواقف، وقريبة من الناس والواقع، حاولنا معرفة ما شاهدته بأم عينها وما صورته كاميرتها، فقالت: "أخبرت عن حالات سيدات تعرضن للتعرية وللتحرش وللاغتصاب، وما حدا بتكلم عنهم، ولا زال هذا العالم ينكر هذه الويلات، بينما يتهم ويقف عند اتهامات وادعاءات كاذبة، ولا يوجد عليها أدلة، في يوم السابع من أكتوبر، وأثبت أن هذا العالم يكيل بمكيالين، وهذا أقسى ما عشناه في الحرب.

وأقول بوضوح، ما في حدا بتكييف مع الظروف غير الإنسانية، ما نعيشه ينتهك كل كرامة وكل عزة، وأهل غزة عندهم كرامة وعندهم عزة، لكن بهاي الحرب تأذت واتوجعت، وحاول الاحتلال أن يدوسها، لكن أنا بضل متأملة إنه شعبنا فيه قوة لأنه هو على حق، فما رح يفقدوا بعون الله إصرارهم على البقاء وعلى التحرر".

الخيمة وحش النزوح

"الحياة في الخيام هي أسوء شكل ممكن الإنسان يعيشه على الإطلاق. الحياة ثقيلة ومرة بشكل لا يوصف، حتى إني غبت عن شغلي أسبوعين، ما كنت بعمل فيهم اشي غير بطلع بسقف الخيمة وقاعدة معاي صدمة.
 
"المساعدات لا يوجد لتوزيعها إدارة، وإسرائيل تنمع ذلك، وهناك فشل إداري مريع وحتى الشرطة يقصفون، ما في توزيع ما في توزيع سليم، ما بوصل حدا عدا عن الإشي إلي بنباع بأسعار مضاعفة، وإحنا من أول الحرب بس بنشتري أكلنا"

كما قالت غالية، إنها نزحت من منطقتها إلى الجنوب، إلى خيمة، فماذا عنها بعد الرحيل عن بيت وارف دافئ نظيف ومرتب، ونحن الذين رأينا في صفحاتها صور بيتها الجميل، تقول غالية: "الحياة في الخيام هي أسوء شكل ممكن الإنسان يعيشه على الإطلاق. الحياة ثقيلة ومرة بشكل لا يوصف، حتى إني غبت عن شغلي أسبوعين، ما كنت بعمل فيهم اشي غير بطلع بسقف الخيمة وقاعدة معاي صدمة.

كان الوقت كتير طويل وصعب عليّ، بخيمة بجامعة القدس، وفي هاي الظروف الأكل صعب الشرب صعب الحمام صعب دخول دورة المياة صعب، وما كان في أصلاً دورات مياة. والمطر إلي كان يدخل علينا كتير بمنتهى البشاعة، صار قصف جنبنا ووصلتنا الدبابات ووصلنا إطلاق النار.

ومرة من المرات اتفاجأنا بوجود الدبابات، فطلعنا نجري بنص الليل الساعة ١٢ على رفح والشارع عتمة مع أطفالنا إلي أخدناهم من تحت الفراش وهم نايميين، رحنا نجري فيهم ونصرخ ونبكي، وهم مش فاهميين إشي، ورحنا على رفح وقعدنا كمان مرة بأرض فيها، فبعد ما صار انسحاب من الوسطى ارجعنا على بيوتنا في الزوايدة، وبعدين بيت أهلي. وبقيت شهرًا في الخيام، لكن كانت جحيمًا على الأرض. أعان الله الناس على هذه المعاناة التي لا تطاق ولا توصف".

ومن ثم استفسرنا عن حالة المساعدات وإمكان وصولها، والغلاء في غزة كلها وخصوصًا في منظقة الشمال، فسرت غالية الوضع، بأن: "المساعدات لا يوجد لتوزيعها إدارة، وإسرائيل تنمع ذلك، وهناك فشل إداري مريع وحتى الشرطة يقصفون، ما في توزيع ما في توزيع سليم، ما بوصل حدا عدا عن الإشي إلي بنباع بأسعار مضاعفة، وإحنا من أول الحرب بس بنشتري أكلنا، ما بوصلنا ولا بيوصل حدا، إلا طبعًا ناس قلييلين مش بكميات كافية، ما حدا بركن على المساعدت الكل بضطر يشتري.

والأسعار عشر أضعاف، يعني الواحد بس بشتري أكل عشان يعيش مش أي إشي ثاني. طبعاً الشمال أنتم عارفين مجاعة، ما في عندهم إشي يؤكل، إحنا الجنوب لسا فيه، صح غالي جداً جداً بس موجود إلى حد ما، معلبات وكوبونات، الأكل كله غير صحي، طبعاً ما في لحوم ولا دجاج وطبق البيض إلي كان بين ١٠-١٢ شيقل هلأ بمية شيقل".