بنفسج

البائعات الصغيرات: في غزة تُجبر الحرب الأطفال على العمل

الجمعة 26 ابريل

"مريول أنيق.. وطوق للشعر.. وحذاء أبيض".. كان من المفترض أن يشمل المشهد هذه الأساسيات بحذافيرها، طفلة تركض وسط ازدحام الصغار لتصل مدرستها وشعرها يتطاير حولها في صورة فنية جميلة، تقف في طابور الصباح شامخة أمام العلم الفلسطيني وتردد النشيد الوطني وسط باحات المدرسة، لكن منذ السابع من أكتوبر حرم أطفال غزة من كل الصور المعتادة والحياة الطبيعية البسيطة.

 يتمنون أن يركضوا نحو عقارب الساعة للخلف دون النظر للأمام للعودة لعادية الحياة، عرفوا قيمة الدروس والواجبات التي كانوا يتأففون من فعلها، فبعد أن طحنتهم الدنيا في الحرب المجنونة التي أودت بحياة العديد من رفاقهم الصغار، ما زالت تقسو عليهم أكثر، فاضطروا لدخول حياة الكبار مبكرًا جدًا، يفكرون في مشاريع مجدية تجلب لهم المال، كنت قد رأيت فيديو لفتاتين يصرخن بصوت عال: "يلا المعجنات السخنة".. فشد انتباهي لون بشرتهن الباهت أثر التعب...

 الكل في غزة بلا استثناء شاخ في الحرب أعوامًا عديدة، وكأن الست شهور دهرٌ كاملٌ، حتى الصغار ظهرت على ملامحهم قسوة الحرب، أذكر أننا كنا نقول ممازحين بعضنا البعض: "مالك زي كأنك طالع من حرب".. جربنا من الحروب ما عشنا ولكن هذه المرة لا تشبه سابقتها أبدًا، علمنا حق المعرفة ماذا يعني هذا الوصف، تعرفنا كيف يكون الإنسان حقًا في الحرب. 

تعددت الإحصاءات وكُثرت أقوال الخبراء فيما يتعلق بمستقبل أطفال غزة، وما الذي ينبغي فعله للتخفيف من الكارثة التعليمية التي أصابت الصغار، وما الآثار النفسية التي تركتها الحرب، وكيف أثرت عمالة الأطفال عليهم من كل النواحي، ولكن مهما وثقت الأرقام والأقوال تبقى الشهادات على أرض الواقع أقسى مما يكتبه الخبراء.

بالعودة للصغيرتين ألما ولمى اللاتي يصررن على العمل لإعالة أسرتهما، وتظهر على ملامحهما ضراوة الحرب، وبدلًا من العيش في سلام وأمن، يعشن الأحزمة النارية، ويميزن جيدًا الفرق بين صوت الأباتشي والزنانة والقصف المدفعي، وقصف الطيران، تقول ألما 13 عامًا عن عملها كبائعة للمعجنات: "اجتنا فكرة أنه نعمل معجنات عشان نصرف على أخونا المصاب، صرنا نصحى من الستة بنساعد إمي وبنوخد المعجنات وبنروح نبيع وبنبيع الوحدة بشيكل، والحرب منعتني أروح المدرسة زي قبل وخلتني ما أشوف صحباتي ".

لم تكن ألمى الطفلة الوحيدة التي تعمل لأجل العائلة، كثير من أطفال غزة تحملوا المسؤولية كاملة، ونجحوا في اختبارها، يعوون أن لكل شيء ضريبة ثمن يجب أن تدفع وثمن الحرب كان حرمانهم من أشياءهم الأحب لقلوبهم، فهذا من فقد الرفاق، وتلك فقدت مريولها الأنيق، والأخرى فقدت المدرسة بالكامل، وإن سألتهم: لشو بتشتاقوا؟ سيجيبون على الفور: "للمدرسة والواجب وصحبة الصف".

يعز علينا أن نقول أن المدرسة والصف والكتب كل ذلك صار في عداد الماضي ومن الذكريات التي بقت في بضع صور لا تزيل حتى وله الشوق لتلك الأيام، فبات الصغار كالكبار يمسكون بالهواتف المحمولة ويحفظون صورهم بالزي المدرسي، وشهادات التقدير عن ظهر قلب، يشاهدونها عبر الشاشة وكأنها واقع ماثل أمامهم خوفًا من أن يغدر بهم العقل في لحظة قصف غادر فيصابون بنوبة نسيان لكل الذكريات.

حقيقة تأثرت العملية التعليمية بشكل كبير جدًا من بعد السابع من أكتوبر، وستتأثر لأعوام قادمة بجسب إحصاءات أجراها مختصون.فقد ذكرت وزارة التربية والتعليم في إحصاء لها في شباط المنصرم بأن هناك  5055 طالبًا وطالبة قد اُستشهدوا، و246 معلماً ومعلمة،كما بلغ عدد الجرحى 8497 طالبًا وطالبة، و836 معلمًا ومعلمة.وبحسب بيان لمؤسسة إنقاذ الطفولة فإن "العديد من الأطفال قد تشوهوا، ومنهم من فقد جزءا من جسده، ويوجد أكثر من عشر أطفال يفقدون إحدى ساقيهم أو كلتيهما كل يوم منذ بدء الحرب، وتُجرى لكثير منهم عمليات بتر من دون تخدير".

وتجدر الإشارة إلى أنه تم قصف وتدمير  286 مدرسة حكومية و65 مدرسة تابعة "للأنروا"، ويوجد 133 مدرسة حكومية تم استخدامها كمراكز للإيواء، فتحولت المقاعد فيها إلى حطب يستخدمه الناس في طهو الطعام.وكان قد صرح خبراء أمميون في بيان لهم بأن غزة تتعرض ل " "إبادة تعليمية متعمدة"  بعد تدمير ما يزيد عن 80% من المدارس فيها.

أذكر أننا كنا نقول ممازحين بعضنا البعض: "مالك زي كأنك طالع من حرب".. جربنا من الحروب ما عشنا ولكن هذه المرة لا تشبه سابقتها أبدًا، علمنا حق المعرفة ماذا يعني هذا الوصف، تعرفنا كيف يكون الإنسان حقًا في الحرب. 

وقال الخبراء في بيانهم: "إن تدمير البنية التحتية التعليمية في غزة لها تأثير مدمر طويل الأمد على حقوق الناس الأساسية في التعلم، وهذا يحرم أجيال فلسطينية أخرى من مستقبلهم". تعددت الإحصاءات وكُثرت أقوال الخبراء فيما يتعلق بمستقبل أطفال غزة، وما الذي ينبغي فعله للتخفيف من الكارثة التعليمية التي أصابت الصغار، وما الآثار النفسية التي تركتها الحرب، وكيف أثرت عمالة الأطفال عليهم من كل النواحي، ولكن مهما وثقت الأرقام والأقوال تبقى الشهادات على أرض الواقع أقسى مما يكتبه الخبراء.