عندما نسمي ما يحصل في غزة الآن وقد دخلت يوما العشرين بعد المئتين، بالإبادة الجماعية، فهذا لا يعني فقط قتل المدنيين، وإنما إعدام أسباب عيشهم، أو شروط الحياة، وهو ليس قتلا مباشرًا فقط وإنما قتل ما يمكن أن يمدد آجال حياتهم، فالاحتلال عندما يهدم مؤسسة صحية، مستشفى، عيادة، مبنى صحيًا، أو يقتل طبيبًا أو ممرضًا، فهو يمنع سبب حياة آخرين، الآلاف منهم، والأمر ينطبق على استهداف أرحام النساء وإعدام خصوبتهن، فهو إن قتل امرأة فلا يقتلها وحدها فحسب وإنما يقتل جيل أبنائها وأحفادها.
وهنا تتجلى أسباب مطاردة الأطباء واعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم، ومن هنا نذكر الطبيب أبو سلمية، وكذلك عدنان البرش، الذي صمد طيلة فترة الحرب، وكان ينام مرهقًا على الكرسي مغرقًا بدماء الجرحى والشهداء، ورفض الخروج من المستشفى رغم حصاره، وكان ينادي عبر وسائل الإعلام والمؤسسات الصحية العالمية والحقوقية، أن أنقذوا أطفال غزة؛ فدماؤهم تصفى.
هذا التقرير يلقي الضوء على الطبيب عدنا البرش، رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء بغزة، الذي توفي في سجن عوفر الإسرائيلي، بعد أكثر من أربعة أشهر من اعتقاله أثناء عمله مع مجموعة من الأطباء في مستشفى العودة، شمالي غزة.
من هو الطبيب عدنان البرش؟

ولد في جباليا في عام 1947، حصل على شهادة الثانوية العامة من مدرسة حليمة السعدية في غزة. ثم سافر إلى رومانيا حيث نال شهادة البكالوريوس في كلية الطب بجامعة يانش. وحصل أيضاً على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة الأزهر في غزة. عاد البرش بعد ذلك من رومانيا، وواصل في تخصص جراحة العظام والمفاصل، وحصل على البورد الأردني والبورد الفلسطيني، ثم نال الزمالة البريطانية في جراحة الكسور المعقدة في لندن. وتولى رئاسة قسم العظام بمستشفى الشفاء، واعتبر من أهم جراحي العظام في الوطن العربي.
في حرب الحالية؛ ظلّ الطبيب البرش مصراً على استكمال العمل، في المستشفى الإندونيسي، حتى دخلت القوات الإسرائيلية وأجبرتهم على الخروج بالقوة واضطُّر إلى إخلاء المستشفى، ليلتحق بعدها للعمل في مستشفى العودة في بيت لاهيا، إلى أن اقتحمت القوات الإسرائيلية هذا المستشفى أيضاً، ثم اعتقل عدنان في ديسمبر/كانون أول 2023، وبقي في السجن، وبحسب كل روايات جمعيات الأسرى، فقد تعرض لتعذيبٍ قاسٍ جداً وقُتل على إثره.
تقول زوجة الشهيد الدكتور عدنان البرش: "الله يرحمك ويجعل روحك في جنان النعيم يا عدنان، توقعت إنه يجيني برجله أسير محرر بطل، أجاني شهيد محمل… حسبنا الله ونعم الوكيل. بعد استشهادة داخل السجون الإسرائيلية، الله يرحمك يا عدنان بطل كان صامداً كان مرابطاً كان مميزاً كان مثابراً اتحاصر تصاوب، ولما تصاوب في المستشفى الأندونيسي وهو مصاوب كان يشتغل العمليات ويداوي الجرحى وهو مصاب.
لما نادوا اليهود على أبو يزن حكوا له انزل لو منزلتش رح نقصف المستشفى عليك اتصل علي وحكى لي يا ياسمين أنا اليهود بنادوا علي بدي أنزل لهم بلاش أرواح بريئة تحي برقبتي، حكيتله حاضر أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، نزل حكى للأطباء اتفضلوا هاي جوالي وهاي محفظتي وشنتايتي وهاي ملابسي بعد ٢٤ ساعة إن ما رجعت بتبلغوا زوجتي وأخواتي إنه أنا أسير،
أوجه ندائي للعالم أجمع أني أطالب بجثة زوجي الدكتور عدنان البرش الشهيد البطل أن يدفن في الشمال لا أن يدفن في الجنوب، ولا أن يوضع في مقبرة الأرقام أنا اطالب باستعادة جثة زوجي وتشريحها ومعرفة سبب وفاته واستشهاده".
شهادت حية حول تعرضه للتعذيب

يروي الدكتور خالد حمودة و-هو أسير محرر- شهادته حول الطبيب البرش في السجن فيقول: "أنا كنتُ معتقلأ، قابلت الدكتور عدنان البرش يمكن خامس أو سادس يوم، تقريباً بعد الساعة ١٢ بالليل…بعد منتصف الليل طبعاً أنا كنت بهذه الفترة موجود شاويش في الغرف، جابوا الدكتور عدنان مع ٣ أو ٤ من الأطباء من مستشفى العودة ومستشفى المعمداني والمستشفى الأهلية الموجودة في غزة، والله كانت حالته يرثى لها يعني الدكتور عدنان كان جاي وواضح عليه آثار الضرب والتعذيب، مسكته من يده وعرفته عن نفسي وقلت له اطمئن وإنه هو موجود في المعتقل رح أقعده وأوفر له فراش
فقال لي يا خالد أنا ضربوني وبهدلوني وكل جسمي يؤلمني حتى كان عندي حبوب مسكنة وأعطيته واحدة منها لغاية ما تحسن نوعاً ما. وبعدين جلس في المعتقل هذا أول يوم بشوف الدكتور عدنان فيه كان تعبان كان الدكتور عدنان حتى ما يقدر يروح ع الحمام، وكان يروح عليه بصعوبة كان يطلب أساعده وآخذه وأرجعه عالمكان اللي بقعد فيه لانه ما بقدر يروح لحاله وضعه ما كان كان سيء".
قعد عندنا في المعتقل يومين، وبعدين أخذوه على مكان ثاني أنا شخصياً لما شفت الدكتور عدنان والأطباء اللي جايين معه بالوضع الصعب الي كانوا فيه أنا نفسياً تأثرت وبكيت طبعاً بعدين لما جلسته وبديت أتعامل معهم يعني نوع من الاحتضان وطبعاً أثر علي إني أشوف الناس هدول يعتبروا واجهة الأطباء ورأس الهرم في غزة إنهم يعاملوا بالمعاملة هذه".
ومن المشاهد المؤثرة التي شاهدناها، ابنته الصغيرة التي قالت ببراءة: "كان نفسي بابا يطلع والله اشتقتلوه كثير، والله كان يجبلي إلي بدي ياه، الله يرحمه استشهد، كنت أحبه كتير. عملي العيد ميلاد ما أحلاه جبلي هدية ما أحلاها حلق دهب دهب دهب، كنت محضراله رسالة عشان أعطيه ياها بس استشهد الله يرحموا، اليهود حرموني أحكي كلمة بابا".
الطيب عدنان البٌرش: سيرة ذاتية مختصرة

في شهادة للدكتور مهند الكسواني الذي يصف زميله: "بطل من بلادي صاحب مقولة نموت ولن نركع، الشهيد البطل عدنان البرش، الطبيب البطل المختص بالجراحات المعقدة خريج جامعة كينز كولج في بريطانيا إحدى أعرق الجامعات، هذا الطبيب خدم في مستشفى الشفاء أثناء الحرب على غزة وصمد صمود الأبطال ولما أجبر على النزوح خرج ماشياً على قدمه وذهب إلى المستشفى الاندونيسي ولم يتوقف لحظة واحدة بل أكمل عمله في مساعدة ومداواة أهل بلده، ثم أجبر على الخروج إلى مستشفى العودة ومن هناك اعتقله الاحتلال وبقي في سجن الاحتلال إلى أن اغتيل، وإلى الان لم يتم تسليم جثمان هذا البطل.
أطباء فلسطين الموجودين في غزة الصابرين المحتسبيين هم عنوان الكرامة لهذه الامة، أنجبت فلسطين خير الأطباء واغتالتهم يد الاحتلال يد الخسة والعار، لا أدري عندما تغتال طبيب وتعذبه وتحتجز جثمانه، وهو لا يعمل إلا بما يملي ضميره الإنساني في مد يد العون لأهل بلده. شخصية عظيمة قدمت الكثير، إنه الشهيد الدكتور عدنان البرش رئيس قسم الجراحة العظمية في مستشفى أو في مجمع الشفاء الطبي، الذي اعتقل وعذب واستشهد وبالأمس أعلن شهيداً. الدكتور عدنان بالمناسبة يشارك سنوياً بخمس مؤتمرات عالمية من أميركا إلى هولندا إلى فرنسا إلى الإمارات إلى مصر.
ما الجريمة التي ارتكبها حتى ذبح؟
الدكتور عدنان البرش يحمل أعلى رقم قياسي في العالم لطبيب، أجرى عمليات جراحية عظمية بالمطلق، ثم أعلى رقم لإجراء عمليات جراحية في يوم واحد، عدد العمليات التي أجراها في حرب ٢٠١٤ أو عدوان ٢٠١٤ الذي شنه كيان الاحتلال على قطاع غزة في إحدى الأيام كان ٢٨ عملية في ذاتت اليوم من أصل ٦٥ عملية أجريت في المستشفى، في هذه المرة يحكي زملاؤه إنه في يوم واحد أجرى ٤١ عملية جراحية عظمية، هذا لا يمكن أن يحدث في مستشفى آخر بالعالم ولا حتى في حرب أخرى أو حتى في ظروف شديدة القسوى كالتي مرت على غزة.
هذا الشخص الذي كان متاحًا أمامه أن يكون في ألمانيا أو بريطانيا أو أمريكا أو هولندا، هذا بالإضافة إلى الدول العربية التي قدمت عروض والتي كانت حتى قبيل بدء طوفان الأقصى، ولكنه كان متسمكًا بالبقاء في غرة وعائلته معه، وهناك فيديوهات منتشرة وأنا أتمنى من الجميع أن يحضروا نبذة عن السيرة عن هذا الذي مضى على طريق القدس، هذا البطل الكبير هذا الذي لم يحمل سلاحاً لكنه تمسك بالأرض تمسك مع عائلته.
وهو يقول إنه في مرة من المرات كان يجري العملية وجاء الخبر أن زوجته تكرر الاتصال لأن صاروخ سقط قرب المنزل فطلب من الممرض أن يلصق الهاتف بإذنه وأن يربطه على رأسه كي لا يوقف العملية، وأخذ يحدث أبناءه الذين يصرخون وهو يسمع صوت تناثر الزجاج وتساقط القذائف والهلع والرعب الذي يدب في صفوف العائلة ويهدئهم ويطمئنهم وهو يكمل عملية الإنقاذ التي كان يقوم بها من موقع رسالته الإنسانية. اليوم الدكتور عدنان البرش شهيداً! ما الجريمة التي ارتكبها حتى ذبح؟ عدنان البرش لم يقتل في قذيفة ولا في صاروخ ولا في اطلاق نار قتل وهو في الأسر عذب حتى الموت جريمته التمسك بالأرض والبقاء في غزة، جربمته التمسك بشعبه بأرضه، بوطن. لكل ذلك قتلت إسرائيل عدنان البرش!