لم تعد البيوت في غزة منظمة مرتبة مهندمة جميلة، تصحو فيها سيدت البيت على صوت فيروز "يسعد صباحك يا حلو"، فتنفض الغبرة عن الأواني الذهبية بلطف وعناية، وتبخ المعطرات على المرتبات والشراشف الوردية، وتروي زهورها المدلاة من الشرفة، ثم تضع كرسيها وتحتسي قهوتها بتأن واستمتاع، أو ربما تذهب إلى عملها على عجلة بعد أن ترسل أبناءها إلى المدرسة، لتعود فتعد الطعام وتُدّرس الأولاد، وتنجز مهامها الأخرى بُيسر؛ نعم نقول بيُسر فهي سهلة ومُيسرة إذا ما قُرنت بالحياة اليوم، فقد فقدت سيدات غزة كل طمأنينة وانقلبت مهماتهن كما للعقل ألا يصدق!
في الحرب والنزوح: مطحنة الأعمال اليومية

في قائمة الأعمال اليومية لنساء غزة سيل كبير من العمل المرهق فكل عمل يسير كان قبل الحرب، بات الآن عبارة عن مطحنة لهن، جميعهن يطبخن على الحطب والشمس الحارقة مُصوبة فوق الرؤوس، فيٌصبن بضربة شمس في الرأس، وحرارة عنيفة تدب في الوجه، فالطبخ على النار أشد الأعمال وطأة عليهن. أما الغسيل فله هم مختلف فبعد أن كانت الغسالة تؤدي مهامها بيسر، باتت الآن أيدي النسوة تقوم بالمهمة الشاقة، فأيدي الغالبية أصابتها الإكزيما والجفاف الشديد. في الحرب اختلفت مهام النسوة وأضحت أشد قساوة، وإن لم يكن لديك مزاج لعمل تلك المهمات اليوم فلا بديل عنك ليقوم بالمهمات وخصوصًا لو كنت بالأساس ربة منزل.
شوهدت نساء غزة وهن يكنسن أرضيات بيوتهن المقصوفة، ويغطين الجوانب المهدومة منها والمكشوفة بالملاءات. شوهدن وهن يحاولن استصلاح بعض الأثاث المحطم، وينقلن الطوب المتناثر والأنقاض في محاولة لاستعادة المكان، ليس المكان المادي بحدوده الفيزيائية، بل بزمانية المعشر والطمأنينة.
تقول إسراء فروانة التي قُصف منزلها واستشهد عدد من أفراد عائلتها وأصيبت بحروق بالغة في الوجه: "لو يحكولي شو نفسك هلأ؟ نفسي الحرب تخلص ونساعد كل غزة من السلك للسلك! نفسي ننام ونصحى بدون زنانة وضرب وصواريخ وقذائف! نفسي نطبخ ع الغاز بدون نار وحطب ودخان وتوليع! نفسي ننام بغرفة فيها سرير وفراش وسجاد ومخدات طرية! نفسي أرجع لحياتي الطبيعية ولطلابي وشغلي!
نفسي أشوف حبيبي مأمون وايمان ومريم وفوفو ويرجعوا يعيشوا معنا! نفسي غزة ترجع غزة! يشاركها في الاشتياق كل الغزيون بلا استثناء، فيعز علينا أن نرى شوارعنا وغزة ولكن لا نعرفها، أصبحنا نتوه في الطرقات فلا علامة مميزة تدلنا على الطريق كالتي كانت".
النساء وترف العناية الشخصية

في الحرب التي سحقت الكثير، تغيرت أولويات النساء، فمن المرطب اليومي للبشرة وحمام الزيت للشعر، وجلسات تنظيف البشرة إلى حياة عدنا فيها للعصور البدائية، فكل ما مر بالماضي وكان جزءا من يومنا هو محض ترف، ففي ليالي الحرب أن تضعي على وجهك الذي تغير لونه درجتين أو أكثر بفعل الشمس الحارقة في الخيمة كريم مرطب أو واق للشمس محض ترف، فإن توفرت المُستحضرات التجميلية البسيطة في الخيمة، فإن هموم الحياة اليومية في ظل الحرب والنزوح، تُسيطر على العقول والنفوس، فلا تجد الفتاة أو السيدة الغزيّة في نفسها رغبة في ذلك، وهي إن حاولت أن تهتم في نفسها فهو إما أن يكون من باب الفرض والواجب أو في محاولة للهروب من الواقع، وخلق بعض الأوقات المقتطفة التي تنسيهن ويلات الحروب.
من جهة أخرى؛ فكثير من السيدات في غزة لم تنظر لشكلها في المرآة لأيام طوال، لم تلحظ الندوب التي ظهرت في وجهها ولا تغيير لون البشرة، ولا الحبوب التي تعلن تمردها أيضًا، فتظهر بسبب الضغوط النفسية. أما شعرها؛فالسيدة في غزة لم تترك شعرها ليرى النور لأشهر عديدة مما أصاب العديد بقشرة في الشعر بسبب قلة الاستحمام، بسبب قلة المياه وصعوبة الحصول عليها، والعديد منهن لجأن إلى قص شعرهن فلا وقت للاهتمام به. ولم تعد للخصوصية معنى في خيم النزوح، وهذه معاناة أخرى للسيدات، كل من يقطن الخيمة يتمنى أن ينعم بلحظة هدوء وخصوصية، أن لا يرى أنواع الحشرات التي لم يرها في حياته كلها.
أمنيات بسيطة: تجمع عليها النساء في غزة

إن الحياة اليومية في غزة للنسوة متشابهة لحد كبير، سواء كن في خيمة أو في بيت تصدعت جدرانه إثر القصف العنيف، المهام تتشابه والحياة قاسية، والحرب أقسى ما فيها، أصبحت الأمنيات أن تغدو الجمعة جمعة كما كانت بأجوائها، وملل العصر فيها، أن نرى الصغار في طريقهم للمدرسة، أن نمسع صوت الغسالة والثلاجة، وأبسط أمنية لنا أن نفتح الصنبور فنجد ماء.
يسيطر على نساء غزة الهاجس ذاته، أن نبقى أحياء وأطفالنا، وبالرغم من أن وجوههن تبدو باهتة وعيونهن ناعسة من كم الإرهاق الذي يعانين منه، والخوف الساكن في قلوبهن أن يفقدن طفلًا، إلا أنهن يستيقظن لممارسة مشاق اليوم وكل أملهن أن يعدن لليلة آمنة لا أزيز طائرات فيها ولا صوت بلدوزرات إسرائيلية تُحدث ضجيجًا في الأرض، أن يغدو المساء مساء والعيد عيد، ولعل ذلك قريب.