"ما دام الأمل طريقًا فسنحياه".. اتخذته كشعار ومنهج حياتي في ظل حرب الإبادة الجماعية، التي طالت كل مناحي الحياة ومنها التعليم ولأن العلم مشكاة من نور كان عليها أن لا تطفئ الضوء بل تعمل على توهجه من جديد، فما كان منها بعد 57 يومًا من نوبات الهلع التي كانت تصيبها يوميًا في بداية الحرب إلا أن تنبعث من رمادها لتكون بلسمًا لأطفال دُمر مستقبلهم التعليمي بالكامل، فأصرت أن تمارس حلم طفولتها التي لطالما مارسته سرًا في غرفتها الصغيرة لتجوب كل مخيمات النزوح ب "بسطة" تعليم وتصبح معلمة تعلم الصغار الأساسيات التي ضيعتها الحرب من ذاكرتهم.
مدرسة على الطريق: أمل سنحياه
الشابة نور نصار خريجة القانون، التي وجدت نفسها في التدريس وسط الأطفال، شغفها أن تمسك القلم وتخط بخطها على السبورة، لتمد يد العون لأطفال ذاقوا كل أنواع الويلات في عمر مبكر، أخرجت حقيبتها الشخصية الجذابة ووضعتها أمام شقيقتها الرسامة لتقول لها: "ارسمي شي يخلي الأطفال يحبوا يرجعوا يتعلموا من تاني"، فأخرجت لها تحفة فنية تسر العين، فأخذتها في طريقها الوعر وتنقلت بها في مخيمات النزوح، تنصب السبورة والقلم فيلتف الصغار حولها ليأخذوا الدرس الأول، ولربما يبدو ضربًا من جنون أن تتجول بحقيبتها الكبيرة نوعًا ما وبأدوات التدريس بين الأماكن فمن الممكن أن تطالها غارة إسرائيلية قريبة فتودي بحياتها ولكن ما باليد حيلة سوى أن تعمل ما تحب مهما حفتها المخاطر.
تقول لبنفسج عن بزوغ الفكرة في عقلها: "حينما كنت أسير في الشوارع رأيت جيراني الأطفال الذين كنت ألعب معهم الكرة في طريق العودة للبيت يوميًا قبل الحرب، يجلسون على البسطات ليبيعوا أشياء متنوعة، جن جنوني وقتها وعز عليَّ أن أرى مستقبلهم التعليمي يضيع، فما كان مني إلا أن أفكر في مبادرة تعليمية تصل للصغار دون أن يمشوا مسافات طويلة للوصول إليَّ لعل وعسى يكون لي بصمة في عودتهم نحو التعليم وتنشيط ذاكرتهم التي أكلتها الحرب، جلبتهم في البداية لجلسات الدعم النفسي ثم بدأت رحلتي التعليمية معهم على بسطتي المتنقلة".
من بسطة البيع إلى بسطة العلم
تؤمن نور تمام الإيمان بأنه يجب على المرء أن يكون ضوءا لغيره في الطريق المعبئ برائحة الموت، ولم يكن خط سيرها هينًا بل واجهت مطبات حياتية تتمثل في عدم قدرتها على الوصول لكل الأطفال النازحين، فكانت فكرة المدرسة المتنقلة خيار جيد بالنسبة لها لتصل فكرتها لأكبر قدر ممكن، وخلال رحلتها لبث الأمل واجهها طفل قال لها: "شو بدي بالتعليم أنا بدي فلوس لأقدر أصرف على أهلي"..
جمعت الأطفال في المخيم وعقدوا اتفاقية تعليمية سويًا يتخللها اللعب بين الحين والآخر، فوقع نظرها على الطفل ذاته الذي رفض الحضور سابقًا، فابتسمت وأخبرت نفسها: "ولادنا غير.. لسا في أمل رح ننجح ونتعلم".
وجدت نفسها بين الأطفال وشعرت بقيمتها، لم تعد تأتيها نوبات الهلع، العطاء والحب والعمل التي تحبه كان شفاء لها، ولكن ما كان يؤلم قلبها انقطاعها عن الأطفال التي اعتادت عليهم في رفح، وقتما نزحوا تفرقت بهم السبل وعاثوا في البلاد من جديد يبحثون عن مكان شبه آمن ولم يعد للتعلم مكان في قاموسهم، تحت جلد الطائرات والآليات الإسرائيلية كان التفكير بالنجاة الأهم حينها..
تقول: "كنت واحدة ممكن نزحوا من رفح إلى النصيرات ثم إلي دير البلح، رأيت مخيمات جديدة هناك فكان لزامًا عليَّ أن أكمل الطريق الذي بدأت، تجولت بين المخيمات بحقيبتي والسبورة وتعرفت على أطفال جدد، ولكن في وجوه الاطفال كنت أبحث عن طفلة كانت طالبتي في رفح لديها إعاقة سمعية وبدأت معها في جلسات لتعليمها الحروف والنطق، ولكن لم أجدها وآمل أن أعثر عليها وسط النازحين".
من بسطة تعليمية إلى نقاط تعليم ثابتة

تسعى نور التي بدأت مشروعها ك "بسطة" تعليمية متنقلة وتجولت في كل الشوارع تتعرف على وجوه جديدة وتبث روح الأمل في قلوب الصغار إلى تثبيت نقاط تعليمية في المخيمات بدلًا من فكرة مدرسة التجوال لضمان استمرارية التعلم بشكل دائم ولعدد أكبر، بدأت في الزوايدة بنقطة ثابتة، وها هي تسعى الآن مع فريقها الجديد لإنشاء خيم تعليمية دائمة في مخيمات النزوح، ليتمكنوا من تقديم الفائدة لعدد كبير من الصغار النازحين.
ويطمح فريق نور إلى الوصول لحاضنة تعمل على تمويلهم ليتمكنوا من توسيع العمل، والتواصل مع مديرية التربية والتعليم للحصول على ترخيص لبرنامجهم التعليمي ليمنحوا الأطفال شهادات تعليمية معتمدة، حتى لا يضيع عليهم عام دراسي كامل.
طال العداون الإسرائيلي على غزة وما زال معظم أطفال غزة منقطعون على التعليم في ظل المحرقة وحرب الإبادة وهذا ضمن سياسة التجهيل التي يتعمد الاحتلال فعلها بقصفه للمدارس والأماكن التاريخية، إذ يوجد حوالي625,000 طفل حرموا من التعليم منذ بدء العداون الإسرائيلي على غزة.