كنت رأيت مؤخرًا مجلة كان جدي كاتبًا بها تعود للعام 1995، صورة لخيام أجدادنا بعد النكبة، فتراءى أمامي مشهد مخيمات النزوح في غزة، فما أشبه اليوم بالماضي بصورة الخيام المتراصة على مرمى البصر، كلاهما متشابهان في التشريد والألم والنزوح، نعاني مثلما عاني أجدادنا منذ سنوات طوال، كانت تُحكى لنا قصص الخيام والطبخ على النار والآن يعيشها الغزيون واقعًا، فلا داعي أن تشرح الجدات كيف كن يدبرن أمورهن في خيمة، فقد دارت حلقة الزمان ليعاني أهل غزة مما عاناه من يكبرونا بسنوات طوال تفوق عمر "إسرائيل".
النازحون في غزة: رفاهية الحصول على خيمة
أن تعيش في خيمة بعدما كانت لديك وسائل الرفاهية المتاحة يعني أن تعرف حرارة جهنم على الأرض، وأن لا يكون للتطور التكنولوجي الذي يعرفه العالم اليوم أي داعي، فلا شيء يخفف عنك معاناة الخيام وحرارتها، فهي شمس تنخر في الرأس، وسخونة تهب من كل الأطراف، وطبخ على الحطب في ظل الشمس الحارقة، ورمل تحتك تنتشر فيه حشرات لا يعرف لها اسم، وحياة تحت أزيز الطائرات وصوت المدافع، ومع كل غارة يهتز نايلون الخيمة، ويصرخ نازحو الخيام: "يارب سترك يارب لطفك".
مر 8 أشهر على العدوان الإسرائيلي على غزة وما زال الغزيون يتمسكون بأملهم بعودة نحو غزة والشمال إلى بيوتهم التي تركوها مجبرين بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، 280 يومًا من العيش في خيم لا تصلح للعيش فلا تقي من برد الشتاء وأمطاره ولا من حرارة الصيف، فتزداد معاناة الغزيين النازحين، هنا تبوح لنا بضع سيدات بماسأة العيش في خيمة وخصوصًا مع فصل الصيف وانتشار الحشرات الغريبة.
السيدة أسماء السكافي النازحة من حي الشجاعية شرق مدينة غزة إلى النصيرات ومن ثم إلى رفح، واستقر بها المطاف في مواصي خانيونس، تقول لبنفسج: "إن تجهيز خيمة يأخذ وقتًا طويلًا فهي عبارة عن نايلون نثبته بالخشب، ولكنه ليس بالأمر السهل، وفي كل مرة نزوح نضطر لفكها وإعادة تركيبها مرة أخرى مما ينغص علينا، في أخر نزوح لنا بقينا لأيام في الشمس الحارقة دون أن نركب خيمتنا إذ تضررت من كثرة النقل والتركيب، وعند تجهيزها شعرنا بإنجاز عظيم؛ فأخيرًا سنحتمي ولو قليلًا من أعين المارة".
أسماء التي دمر الاحتلال بيتها، قررت أن تنقل الخيمة معها حين عودتها إلى بيتها، لتنصبها فوق أنقاض منزلها المدمر، مع أنها كانت تأمل أن تظل أعمدة البيت سليمة لتصلح غرفة واحدة فقط للعيش فيها، فلا طاقة لها على العيش في الخيام الحارقة. تكمل حديثها: "إن حياة الخيام أمر صعب للغاية فلا وسيلة للتخفيف من حرارة الخيمة سوى أن نظل خارجها، أما عن الماء فلا وسيلة لدي لتبريده سوى أن أقوم بوضعه داخل بضعة أغطية ثقيلة حتى لا تطاله سخونة الخيمة، أما إن لم نتبع هذه الطريقة فنحن مضطرون لشربه وكأنه ماء مغلي".
تتمنى أمل أن تشرب بضعًا من المياه المثلجة لكن لا مكان لتبريد الماء قريب منها، فتضطر لشربها ساخنة جدًا، تردف لبنفسج: "مؤخرًا تم توفير مروحة لنا فقلت لعل وعسى تساهم في تخفيف الحرارة، وإذ بها تهب بالهواء الساخن علينا، فأيقنت أنه لا حلول للنار المنبعثة من الخيمة".
لا سبيل لتبريد الخيمة إلا أن تظل خارجها

في رحلة البحث عن خيمة وجدت ضيفتنا أمل وادية وعائلتها صعوبة بالغة في توفيرها وبقوا في الشارع لأيام عديدة، عاشوا في خيمة أحد المعارف لمدة أسبوع واحد حتى استطاعوا إيجاد خيمة تأويهم وفي ذلك الوقت كان أكبر أمنية لأمل أن تمتلك وعائلتها خيمة، وتحققت الأمنية بعد عناء، وبدأت المأساة الحقيقة بالظهور مع أمطار الشتاء التي كانت تتسرب إليهم، ومؤخرًا مع الحرارة الحارقة التي تدك أجسادهم.
اتفقت أسماء وأمل في عدم قدرتهما على تحمل حرارة الخيمة، تهرب طوال النهار منها وتجلس على كرسي في مشفى شهداء الأقصى بدير البلح تمارس عملها وتكتب تقاريرها الصحافية، وصفتها ب "الساونا" وحدثتنا عن الخيمة التي تعتبرها كارثة بحق الإنسان، تقول لبنفسج: "أنا ما بقدر اقعد بالخيمة بالنهار ولو ثواني، بس بدخل لو إلي غرض بدي أعمله سريع وبطلع، بحس بحرارة حارقة بس أفوتها لهيك مستحيل أدخلها إلا بعد المغرب".
ماذا عن الخصوصية في الخيمة؟ ابتسمت أسماء قليلًا وأجابت: "لقد نسيت منذ زمن ماذا يعني أن يختلي المرء بنفسه، هنا في حياة الخيام لا خصوصية بتاتًا، إن أردت تغيير ملابسي يجب أن يخرج الجميع، وأن ذهبت لدورة المياه التي صنعها أشقائي لقضاء الحاجة أو الاستحمام يعلم الجميع أنك هناك، حقيقة اشتقت جدًا أن أستحم بشكل طبيعي، وأجلس مع نفسي براحة دون أن يقاطعني أحد".
معنى أن تعيش في خيام يعني أن تظل المرأة مرتدية لباس الصلاة الخاص بها حتى داخل الخيمة كونها من الممكن أن تنكشف في أي لحظة، وهذه الملابس تزيد من حرارة الجسم في ظل الارتفاع الشديد بدرجات الحرارة، تصف ضيفتنا أسماء الخيمة بالمنجم من شدة سخونتها وتحاول قدر الإمكان أن تبقى خارجها.
لم تخبرنا أمل عن حرارة الخيمة فحسب بل تعمقت في معاناة دخول دورة المياه، التي تصطف لها في طابور طويل لتقضي حاجتها، فتضطر لأن لا تأكل ولا تشرب كثيرًا حتى تقلل من عدد مرات دخولها، "ما باخد راحتي أبدًا كل شوي حد بخبط عليا بكلمة يلا يلا". أما عن الاستحمام فلا رفاهية كذلك لديها بدورة المياه في مشفى شهداء الأقصى، فتذهب من دير البلح إلى حيث تقطن عائلتها للاستحمام وذلك كل أسبوع أو أكثر.
حشرات لا نعرف حتى أسماءها

مهما حاول البعض تزيين حياة الخيام فهذا هباء، فلا جمال في تلك الحياة، فهي مأساة شاقة، يعد المرء لياليها ليلة بليلة ويقول لنفسه كل يوم أما آن للكابوس أن ينتهي، لا تتوقف معاناة الخيام على الحرارة والخصوصية المعدومة بل تمتد معاناتها لأكثر من ذلك، فالحشرات المتناثرة على رمال الخيام والتي لا يعرفها الغاليبة إلا بعد أن عاشوا بها، تنغص على الإنسان حياته، فها هي أسماء تصرخ في ليلة ما بعد أن سقط على قدميها حشرة تشبه أم أربعة وأربعين، فتستيقظ طفلتها وشقيقتها على صوت الصراخ، ويعلنن حملة للقضاء على الحشرة في منتصف الليل، ثم تجلس أسماء وعينيها مغمضة لتقول: "عرفت حشرات هان عمريش شفتها بحياتي".
وعن مواقف أمل مع الحشرات تضيف: "في ليلة ما بينما أضع رأسي على وسادتي لأنام وإذ بصوت يعلو وسط الهدوء الذي يعم المكان، قلت هذا صرصار، فبدأت أبحث عنه أنا وزميلتي بين الأغراض حتى وجدناه فركضت خارج الخيمة وتولت هي قتله، ولم يكن هذا الموقف الوحيد لي، فقد واجهت عن قرب حشرات لا أعلم مسماها، إضافة للبعوض الذي لا يرحمنا ليل نهار، فقد أصبت بحساسية جلدية من كثرة قرصه لي".
أمل التي نزحت من الشجاعية إلى مدينة الزهراء وسط غزة عانت هول قصف أبراج الزهراء بالكامل رأتها وهي تهوى ركامًا على الأرض، والحجار تتناثر عليهم حيث يجلسون عند جامعة فلسطين، قضوا ليلة دامية تصفها أمل بأنها مرعبة وكأنها من أهوال يوم القيامة، أمرهم ليلتها الجيش الإسرائيلي بالإخلاء إلى الجامعة فتركوا البرج الذي يقطنون به مرغمين في الساعة الثامنة مساءا وظلوا يشاهدون الحمم النارية التي تسقط من السماء على المدينة بأكملها حتى ظهر اليوم التالي وهم ينظرون لبعضهم البعض: "وين بدنا نروح".
نزحوا لأكثر من مكان حتى أخدتهم أقدامهم نحو رفح فمكثوا في خيمة حتى أمر الأخلاء فعادت العائلة إلى بيت صديق لهم في خانيونس، وتوجهت أمل لممارسة عملها في مشفى شهداء الأقصى إذ تقطن بخيمة هناك.
ليال طوال عاشتها أسماء في الخيمة تحاول كل يوم قضاء واجباتها اليومية من غسيل وطبخ وترتيب، وهي منهكة الجسد والنفس، تردف لبنفسج: "لقد أصبت بمرض الصفار المعدي فكان لزامًا عليَّ أن أتوقف عن ممارسة أعمالي اليومية والانعزال حتى لا أنقل العدوى لعائلتي، لقد كانت فترة عصيبة عليَّ ولكن بحمد الله تجاوزتها وشُفيت".
وفي نهاية حديثنا مع أمل أكملت بصوت منكسر حكايات مأساة العيش في خيمة، ثم ظهر أمامها طيف البيت الآمن في غزة الذي غادرته في أول يوم من العدوان الإسرائيلي، وعبرت عن اشتياقها المفرط للعودة لغزة، وأنهت حوارها مع بنفسج قائلة: "كان عندي أمل زمان بس حاليًا فش عندي شعور إنه رح نرجع، أنا نفسي أرجع لحارتنا، واشوف خواتي، وادخل حمام البيت وأخد دش براحتي، وأنام على سريري".