بنفسج

هبة المسحال& محمد الباشا: صاروخان ودم حبيب مسفوح

الأربعاء 03 يوليو

"صاروخان.. استهداف برفح.. غارة جديدة.. ركض وصراخ".. بضع كلمات من قاموس الحرب لكنهن قاسيات على النفس، تمتمت في سرها "الله يصبر أهل الشهيد".. كانت وقتها تنتظر زوجها ليأتيها في الموعد الذي حدده لزيارتها في بيت عائلتها، قطع انتظارها أصوات الانفجارات التي بثت في قلبها الخوف، انتظرته وكانت الدقائق تمر عليها دهر كامل.

تعالى صوت هاتف والدتها ليأتي الخبر "محمد استشهد.."، ارتجفت وهوى قلبها من مكانه، ودب صراخها البيت، كان سيأتي الآن وستشكي له خوفها من الفراق، وتخبره عن ليالي الحرب الثقيلة، لم يدم انهيارها طويلًا فلن تفوّت رؤية رفيق الدرب لآخر مرة، ستودعه الوداع الأخير ويعز عليها أن تقول "الأخير".

يوم الفراق .. الوداع الأخير 

ليسوا أرقاما من قصص الشهداء في غزة.jpg

في طريقها نحوه لتُشبع عينيها منه، رأت دمه المسكوب على الرصيف، كان كثيفًا يدلل على بشاعة وجه "إسرائيل".. فماذا يعني أن ترى دم الحبيب متناثرًا في الشارع؟ هل كان جسده محفزًا لسلاح الجو الإسرائيلي لأن يستهدفه بصاورخين بشكل مباشر؟ سمعت همهمات الناس وهم يرون الحدث، "قصفوه بصاروخ أول نزل وهو مصاب من السيارة ع الرصيف بعدين رموا عليه الصاروخ الثاني"..

فتضاعفت صدمتها "إذن لم يمت على الفور.. شعر بالألم وبلحظة خروج الروح".. فسألت نفسها: ماذا شعر في لحظاته الأخيرة؟ ماذا كان سيخبرني باللقاء الذي خططنا له؟ وهل كان وجهي آخر ما تراءى له قبل أن تصعد روحه نحو السماء فرحة بلقب "الشهيد"؟

لم يتبق لهبة سوى بضع صور تجمعها بمحمد، ودفتر صغير كتب به محمد نصوص قصيرة يعبر بها عن مدى حبه لزوجته، وددت لو تحتفظ بملابسه وبأشيائه المفضلة لكن الاحتلال كان له رأي آخر، فقد دمر منزل الزوجية ببرميل متفجر، فغدا البيت أثرًا بعد عين.

الصحافية هبة المسحال وزوجها الصحافي محمد الباشا، من مدينة رفح، التقيا منذ ثلاث سنوات فكتب الله لهما الزواج، ومن وقتها وحتى يوم استشهاده كان نعم الشريك لزوجته، حاورت بنفسج زوجته المكلومة لتحدثنا عن ومضات من حياتهما.تقول بصوتها الهادئ: "كنت أشعر أن الفراق بات قريبًا ولكني كنت أكذب نفسي، لم أتخيل أن يستشهد محمد بهذه السرعة، يوم استشهاده كنت في حالة من اللاوعي والتيه، ووقتما سمعت الخبر وكأن صاعقة وقعت على رأسي، كان أصعب وأقسى يوم في حياتي وخصوصًا حين رأيت دمائه على الرصيف".

تضيف ل "بنفسج": "كان محمد في طريقه إلى زيارتي بعدما أوصل صديق عمره إلى المعبر، وفور وصوله أول شارعنا استهدفته الطائرات الإسرائيلية بصاروخ، نزل من سيارته وهو مصاب فتبعه الصاروخ الثاني، فانتشر فيديو استشهاده على مواقع التواصل، وحينما رأيته بكيت كثيرًا، ولم أجرؤ على التخيل بماذا شعر محمد وقتها".

الصحفي محمد الباشا: صاروخ أول فثانِ فاستشهاد 

صاروخ أول فثانِ فاستشهاد.jpg

افترقا محمد وهبة منذ أيام الحرب الأولى فقد نزحت إلى منزل عائلتها، ونزح هو مع عائلته لمكان جديد بغية الأمان، ولكن لم تكن يومًا أماكن نزوحهما آمنة، عاشا شهور طويلة يسرقان بضع دقائق من الزمن ليلتقيا تحت أزيز الطائرات وعنفوان الغارات، حتى دقت ساعة الصفر ورحل محمد شهيدًا، وظلت هبة تبكيه منذ يوم فراقه.

لم يكن الرضا سهلًا عليها، جاهدت ودعت الله كثيرًا أن يمنحها الصبر على الابتلاء، تكمل ل "بنفسج": "في يوم استشهاده أمسكت هاتفي المحمول لأبعث له برسالة، لقد نسيت لوهلة أنه استشهد، تعودت دائمًا أنه أول من أركض له في لحظات حزني، وها أنا حزينة وهو غير موجود، كان رحيله اختبارا قاسيًا للنفس، ومطحنة يدور بها قلبي المكلوم".
هبة التي كلما رأت منشور أعجبها عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ترسله فورًا لمحمد، وما زالت تفعل الأمر وتنسى أنه قد اُستشهد، وفور تذكرها تدخل في نوبة بكاء طويلة.

ربما كان محمد يشعر بدنو الأجل، فقد جاءني يوم الحب محملًا بأفخم أنواع الشوكولاته رغم ارتفاع سعرها، ليحاول رسم الابتسامة على وجهي، وبعدها التقينا في منزل عائلته وكان يتجاهلني طوال جلستنا، شعرت بخطب ما فيه، هل كان يدرب نفسه على التخلي أم ماذا؟ وهل كان يشعر أن هذا لقائنا الأخير؟

كيف يمكن للمرء أن يرثي أعز إنسان على قلبه في الحياة؟ كيف يمكن أن يحتمل فراقًا أبديًا بهذه الصورة؟ كيف له أن يصبر على فقدان الرفيق والبيت والمدينة؟ تردف هبة: "ربما كان محمد يشعر بدنو الأجل، فقد جاءني يوم الحب محملًا بأفخم أنواع الشوكولاته رغم ارتفاع سعرها، ليحاول رسم الابتسامة على وجهي، وبعدها التقينا في منزل عائلته وكان يتجاهلني طوال جلستنا، شعرت بخطب ما فيه، هل كان يدرب نفسه على التخلي أم ماذا؟ وهل كان يشعر أن هذا لقائنا الأخير؟

وقبلها كنا في شقتنا فجلب أنبوبًا زجاجيًا كنت قد وضعت بداخله رسائل حب قصيرة له في أول ذكرى ميلاد له ونحن متزوجان،  لم يفتحه أبدًا، أمسكه بعد ثلاث سنوات وقال لي خذيه معك في المرة القادمة حين أتي لزيارتك سنقرأه سويًا، ولكن الموت كان أسرع منا".

هبة &محمد: ثلاثة سنوات من الحب 

هبة المسحال ومحمد الباشا الشهيد الصحفي.jpg

ومن الزيارات التي لم تنسها يوم أن جاءها بعد استشهاد عدد من أصدقاءه المقربين، وانقطاع الاتصال مع شقيقه الوحيد،  كان باديًا على وجهه علامات الحزن والانكسار، حتى أنه حلق شعره ولحيته من باب إعلان الحداد، يومها لم تر محمد الذي تعرفه فقد تحول من كتلة من الحيوية والأمل لشخص فاقد للشغف.

عاشت هبة ثلاث سنوات مع محمد ولم تر منه إلا وجهه الطيب الحنون، كانا يتمنيان أن يرزقهما الله بطفل يؤنسهما بدرب الحياة المرير، لكن لم يأذن الله لهما.تستذكر يوم أن جاء للرؤية الشرعية، كان متحمسًا متعجلًا يرغب في إتمام الخطبة بأسرع وقت ممكن، أُعجبت هبة بجنونه آنذاك، فالرجل الذي أحبته وأحبها أوفى وعده لها بالزواج، كان فتى أحلامها التي حلمت به وأثبت ذلك خلال سنوات الزواج، كان يأمل أن يكون أول ذريتهما ولد ليسميه جمال، لكن لم يقدر ذلك.

تقول هبة لبنفسج: "كان محمد كتير بحب الحياة كان نفسنا بس يكون عنا وظيفة ثابتة وبيت وكبشة بنات يكونوا شبهي، وكنا بدنا نسافر سوا بس الاحتلال حرمنا من كل أحلامنا". لم يتبق لهبة سوى بضع صور تجمعها بمحمد، ودفتر صغير كتب به محمد نصوص قصيرة يعبر بها عن مدى حبه لزوجته، وددت لو تحتفظ بملابسه وبأشيائه المفضلة لكن الاحتلال كان له رأي آخر، فقد دمر منزل الزوجية ببرميل متفجر، فغدا البيت أثرًا بعد عين.