بنفسج

آلاء نمر: " ميـــلاد معجزتي الصغيرة ... نعمة"

السبت 20 يوليو

قبل ستة أشهر وتحديدًا في الرابع عشر من شهر يناير من ذات العام« عام الحرب والخوف والجوع والنزوح والتشرد والقتل والفقد والدمار، تزامنًا مع اليوم الـ 100 لعداد الحرب القاسية، كنتُ على موعد لأن أضع مولودتي الجديدة بعيدًا عن بيتي المدمر وعن كل أشكال الحياة بما فيها الأمان، بينما كنت أعتقد واهمة أني سأضعها بعد انتهاء الحرب!

شهر المخاض بعد نزوح 11 مرة على الأقل

مخاض وولادة في ظل الحرب والنزوح في غزة.jpg
 

شهر المخاض وصلته بعدما نزحتُ أحد عشر مرة على الأقل، قفزت من النوافذ مرة هروبًا من طلقات "الكواد"، ومرة تسلقتُ مبنى مدمّرًا بعدما حاصرتنا دبابات العدو للهروب منها، وأخرى قطعت مسافة أربع ساعات نزوحًا من الغرب شرقًا بعدما باغتتنا آلياته اللعينة، ولكن لا بأس!

ها أنا أخوض تجربة ميلادها دون أن أهز جزع أي نخلة لأركن تحتها آمنة، كانت ليلة باردة جدًا وماطرة كذلك، ملبدة بالطائرات الحربية، مُضاءة بضربات الصواريخ المتفجرة في سماء مدينتي التي لا تشبه إلاّ مدن الأشباح المرعبة. بدأ المخاض تمام الساعة العاشرة ليلاً وسط الشارع، وبدأ ميلادها في نفس ذات الوقت بعد الدقيقة الخامسة تمامًا، في لحظات كنتُ أناجي الله أن ينظر إلينا بعين رحمته ولطفه وأن يحرسنا بعينه التي لا تنام.

حين قص زوجي الحبل السُري بيده

شهادات حية لسيدات فلسطينيات حوامل في غزة.jpg
 

بدا ميلادها بالمعجزة بعدما رد عليّ صدى صوتي في أرجاء الحارة الفارغة من أهلها نحو محافظات الجنوب، أطلقت مولودتي "نِعمة" صرخة الحياة بين يدي أبيها الذي نجح في قص الحبل السُري، وإطلاق سراحها لتبدأ رحلتها مع الحياة دون غرفة مخصصة لاستقبالها، ولا حتى سرير صمم خصيصًا لها، وبألبسة جهزتها لنا إحدى "الشهيدات" من بقايا معرض ملابس مدمر!

هذه اللحظة وحدها كانت موتًا مساويًا للحياة بعدما كان الجميع من حولي يذكروني بأن أدعو الله أن يزيح عنا ستار الغمة، وأنا كنت أردد،"وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون"، ولم ينتهِ الأمر بعد ..

رغمًا عن الخطر وقت الليل دبّر لي زوجي سيارة لنقلي إلى مستشفى "الصحابة"، ركبتُ بداخلها وسبقني زوجي برفقة أخي نحو المستشفى جريًا على أقدامهما لاستقبالي هناك، سبقني وأعد لي مكانًا مناسبًا لاستقبالي ومولودتي لكني تأخرت؛ فالسيارة التي أقلّتني ومولودتي المغطاة بقطعة قماش قد فرغت من "جرة الغاز" بعد قطعها لبضع أمتار فقط!

قررتُ أن أكمل الطريق مشيًا بأسرع وقت ممكن، لكني لا أعرف الطرق هنا وبالأصح لا توجد طرق أصلا لسلكه، كل الدروب مظلمة، و لا أرى سوى تلالاّ معتمة من الدمار.كان ابن خالتي يتقدمني في الطريق ممسكًا بكشاف صغير، ويصرخ بأعلى صوته "من اليمين"، وما أن ينحني من درب آخر حتى يعود وينادي "هيني قدامكم ادخلوا شمال" ..

أما عن أمي فقد كانت تنادي بأعلى صوتها "سيارة يا أهل الخير معنا والدة ومولودة"، وكنت أرد عليها "والله إني قادرة أمشي الحمدلله ما تخافي"، بينما يتأرجح معي شيء من بقايا حبل الحياة طوال الطريق مع انسياب دماء الميلاد.

مين الوالدة فيكم؟ 

تجربة الحمل والولادة في ظل الحرب الإبادة الجماعية في غزة.jpg
 

يشتد المطر وتنزل رحمات الله علينا دون ريب، ويهرول ابن خالتي بصغيرتي بعدما خبأها داخل معطفه الشتوي، ويطرد من طريقه قطعان كلاب الليل الجائعة ليفتح لنا طريق المرور،أخيرًا صرخ بأعلى صوته "قربنا نوصل" .. ومع ذلك كان فاعل الخير أسبق بالوصول، صاحب "مكرو باص" لاحقنا من بعيد ليوصلنا إلى المستشفى،  ركبتُ وظللت أشكر سعيه حتى أنزلت خطواتي أمام المستشفى بعدما وصلت صغيرتي قبلي بثوان.

استقبلتني على الباب طبيبة قالوا لها أني أنجبتُ صغيرتي وأنا في الطريق، سألتنا أنا وأختي التي اشتد بكاؤها خوفاً عليّ: "مين الوالدة فيكم؟ "

أجبتُها بكل هدوء وابتسامة واسعة كبيرة عميقة "أنا الحمدلله"، "طيب وانتي ليش منفخة من العياط" سألت أختي، أجبتها أيضاً أنا "أختي خايفة عليّ وأنا طول الطريق بحكيلها إني بخير الحمدلله"، ابتسمت الطبيبة وأكملت لي رحلة الميلاد العحيبة لانتزاع الخلاصة من جوفي.

شو سر الابتسامة؟

الصحفية الفلسطينية آلاء نمر.jpg

احتفظت الطبيبة بما حصل حتى الصباح، وما أن ودعتها سألتني بقولها "بدي أعرف سر ابتسامتك وانتي جاية من طريق مخيفة والدنيا مرعبة ومش عارفة مصير بنتك"، استعدت ذات الابتسامة وأخبرتها: "لأني شفت رحمة ربنا بعنيا ومسكتها بإيدي، رحمة ربنا تُرى بالعين المجردة يا دكتورة الحمدلله.."

أما عن أعجب ما رُزقت لحظتها، فابنة خالتي التي ما قطعتني من فيض دعواتها وخوفها علي بعدما وقع قصف قريب منا، كانت قد خبأت بعض حبات البرتقال المقطوفة من شجرة أرض مجاورة بعد مراقبتها لها جيدًا، حبات البرتقال المنوي عصرها لأكثر من عشرين شخصًا، آثرت صاحبتهم على جعل هذه الحبات عصيرًا ثمينًا نادرًا لأجلي، كانت المرة الأولى والأخيرة على الإطلاق التي أشرب فيها عصيرًا طبيعيًا!

أنجبتُ صغيرتي في مرحلة العدم، جوع يفتك بالأطفال، كان ربع رغيف صغير نصيب يومنا الطويل، ومع ذلك خبأ لي زوجي في حقيبة الميلاد "علبة حلاوة صغيرة"،رغم انعدامها من كل الأسواق، كنت أُفتش عنها كل مرة لأتأكد من وجودها حقًا، وحتى ذلك اليوم سحبت أنفاسي من عمقها وبدأت بأول ملعقة وكلي دهشة من رزقي المخبأ!

داخل ذات المستشفى التي ليس لها نصيب من اسمها؛ فنصفُ قاطنيها نازحين والنصف الآخر نساء أوجعهن مخاض الميلاد، فتشت أختي باحثة عن مشروب ساخن أيا كان نوعه -شاي قهوة نس كافيه- ليحظى جسد زوجي وأخي بشيء من الدفئ، بعدما اغتسلوا بمياه المطر، لم تنجح محاولاتها في إيجاد مشروب لكنها وجدت فاعل خير قد سبقها إليهما وأشربهما كأسًا ساخنًا من الشاي، فعادت لها ابتسامتها الراضية وكلها انتصار، وحتى تدوين هذه الذكرى لن أكتفي من حمد الله كثيراً أن وهبني الله من رحماته ما لا تعد ولا تحصى ودون حد له الحمد لله.