أجريت العديد من الحوارات في مجلة "بنفسج" مع نساء رائدات وعالمات ومنظرات ومؤثرات، ولكن حوار اليوم مختلف تمامًا، هو حوار مع إحدى نساء غزة الصابرات المرابطات الثابتات زوجة شهيد وأم شهداء، وابنة أخ شهداء، وابنة رجل مجاهد وابنة أخ مجاهد أيضًا.
تتحدث برباطة جأش، بقوة وصلابة، صوتها ثابت، لم تهن أو تتعب رغم مصابها الذي تخر له الجبال، وارت أجساد أحبابها، بل أجزاء أجسادهم، واحدًا تلو الآخر، وقفت على قبر زوجها صابرة محتسبة بالحمد والاسترجاع وكأنها خطبة وداع تدرس للأجيال. فقدت بناتها الغاليات، الجميلات، وظلت صامدة لا تكل الحديث عنهن والتذكير بهن وأحلامهن وحياتهن، لله درك، أي زوجة وابنة وأم أنت، تخرجين على الناس، تتحدثين بلسان مفوه حكيم، تحتسبين الشهداء من ذويك وتصبرين الناس من حولك… هذه إيناس هنية، فرع عائلة الشهداء، ابنتهم التي سارت على الدرب، منحت كل ما لديها لله راضية.
إيناس عبدالسلام هنية: زوجة وأم الشهداء

حصلت على رقم التواصل مع إيناس عن طريق إحدى الصديقات، ولم تتردد ساعة في إجابتي، فهي تعتبر أن دورها في الحياة وصعابها إلى حين تسكن الروح حيث يريد بارئها، أن توصل رسالتها، وتساهم بكل ما أوتيت لمؤازرة الناس من حولها. طلبت منها تعريف نفسها لجمهور بنفسج ولعموم القراء فقالت بعد التحية والسلام: "أنا إيناس عبدالسلام خالد هنية، من مواليد غزة سكان الشيخ رضوان، تزوجت من ابن عمي، في الشاطئ، حازم إسماعيل هنية.
بدايةً، أنهيت التوجيهي ودرست هندسة ديكور، ولكنني لم أستطع إكمال المجال لأن الاحتلال قصف بيتي في حرب ٢٠١٤ كنت لا أزال متزوجة حديثًا؛ وكأن الحياة توقفت قليلًا، أكملت بعدها تعليمًا أساسيًا والحمدلله تخرجت بدرجة بكالوريوس، والآن أنا أعمل في المجالين؛ مجال الهندسة ومجال التعليم الأساسي بشكل ودي، وليس رسميًا، يعني أساعد الأقارب والأصدقاء والأحباب، أيهم يحتاج استشارة هندسية أكون حاضرة، فلدي شغف في هندسة الديكور والتعليم الأساسي وهو تربية الطفل والتعامل معه".
ماذا عن الحرب يا إيناس ما فعلت بكم وأنت عائلة دعاة مجاهدين، لكم في كل الدروب شهداء، ماذا عن قصف البيوت والنزوح والاستهداف، أجابت إيناس:"عانينا من النزوح مرات ومرات، لم نخرج مرة فقط بل مرات، لا أذكر كمية الأماكن التي نزحنا إليها، نزحنا من كذا منطقة تحت تهديد النار والضرب والقصف العشوائي وتحت تهديد الدبابات.
كان وضعنا سيئًا جدًا، في مرحلة من المراحل ذهبت أنا وبناتي إلى مكان لم نجد شيئًا نتآوى فيه، فنمنا على الأرض، كان شيئًا رقيقًا ولكنه يسترنا لننام عليه، وكان جانب المقابر يعني مزري والحمدلله، نزحنا إلى المدارس والمستشفيات والخيام وإلى مناطق كثيرة لا أتذكرها لكثرتها".
آمال ومنى: عن فقد مُقلتا العين

ماذا عن فقدك لعائلتك، زوجك وبناتك، كيف كان وقع الخبر عليك: "الحمدلله والشكر لله أكرمنا الله في يوم العيد بعد كل المعاناة التي عشناها، لم يحترم الاحتلال الغاشم حرمة العيد قصف واستهدف زوجي وإخوانه وبناتي، لم يحترم فرحة الأطفال ولا براءتهم. هذا عدو غاشم غير إنساني ولا أخلاقي. طبعاً الحمدلله أنا واحدة من الناس المتصالحين مع فكرة الموت والشهادة، يعني في الحرب كنت دائماً أتحدث عن الموت والشهادة والجنة أمام بناتي، سلّمنا أرواحنا لله. هناك كثير من المواقف لا أنساها في هذه الحرب، لم يؤثر علي أكثر من فقدي لأحبائي”.
"كانوا يوم الاستشهاد، لابسات ملابس حلوة متأنقات، أجيني أشلاء، آمال ومنى بكيس واحد!"
أردت أن تتحدث إيناس عن بناتها بقلب أم ولسان حبيبة، وطلبت إليها وصفهن، فقالت: "بناتي حلوات أمورات بحبوا يعيشوا، بحبوا الحياة، كانت عندهم أحلام وأمنيات. بناتي كثير حلوات وعنيهم حلوة، الكل كان يمدح في جمال عيونهم، كنت أتأمل جمالهن كأني بشوفهن لأول مرة، حلوات بشكل مريب، لدرجة ما أقدر أنزل عيني عنهن، كانوا يوم الاستشهاد، لابسات ملابس حلوة متأنقات، أجيني أشلاء، آمال ومنى بكيس واحد!"
آمال، كثير عايشة طابع خاص، لها طابع وأسلوب خاص، عناها برستيج يعني، بعكس منى كانت عادية تحكي مع الكل وتضحك مع الكل، آمال تلبس بطريقة معينة وتلبس بطريقة معينة. كانت منى تتفرج ع آمال تتعلم منها بعض الحركات كانت آمال مصاحبة بنت عمها، بحكيلها شو بتحكي إنت وبنت عمك بتحكيلي ماما هاي شغلات ما بتخصك هاي شغلات بين الصاحبات فحسيت انه بنتي بتكبر وصارت حدا كبير.
ذواقه آمال ومنى مشكلجية الله يرحمهم، آمال الكبيرة سميتها على اسم جدتها زوجة عمي أبو العبد، رايقة ورزينة وكانت مثل صديقتي، أعتمد عليها في أعباء البيت، وكانت سندًا لي وبنك أسرار وكانت ذكية وجميلة ونسمة هادئة ومحبوبة من الجميع.منى سميتها على اسم والدتي، كانت شخصيتها قوية وتحب اللعب وكثيرة الحركة بس جدعة ما كانت تسيب حقها لو شو ما كان. كانت تحب أختها ريم وتعطف عليها هي وآمال".
الزوج المحب: الشهيد حازم هنية

وعن ابن عنها وزوجها ورفيق دورها سألتها، فأجابت:"حازم كان يدرس في الكلية الجامعية، درس دبلوم علاقات عامة وإعلام. كان طيبًا جدًا، صوته جميل، وقارئ للقرآن وحافظ له، وكان إمام في المساجد. كان معروفًا رحمه الله، وكان كريمًا على أخواته وعطوفًا جداً على أمه أخواته وعلينا وعلى بناته.
أنا أربي البنات وأكون شديدة عليهن، وهو ييجي يفلت كل إشي يعني كان يدلعهن بكثرة لدرجة كانن يحبن أبوهن أكثر مني، من كثر ما هو حنون عليهن والآن سبحان الله أخذهن معاه وراح. كثير بيجيني ناس وبحكولي إنه حازم كان حنون كثير عليهن أكثر منك بالرغم إنه الأم بتكون مربية وبكون الطفل تحت عين أمه تلاحظ الأم كل حركاته وتطوراته، وكذا فهي تتصرف وفق ذلك. الأب يكون متغيبًا عن البيت ويأتي مشتاقًا عطوفًا مدللًا. حازم خلوق قرآن يمشي على الأرض، حنون وعطوف على الجميع. كان يحب بناته وبناته متعلقات فيه. وكانت يده ممدودة دائمة للخير".
ماذا عن مسؤولياتك بعد أن فقدتي الأحبة وكيف تشعرين بمسار الحياة في غيابهم، تقول:"الآن حاسة حالي خالية المسؤولية الذين كانوا يشغلون أيامي ووقتي انتقلوا إلى رحمة الله، الآن أحاول بناء نفسي وتأسيسها، وأصنع محتوى هادف على السوشال ميديا وأحاول أقوي من عزيمة أبناء شعبي وأكون مثلًا أعلى لزوجات الشهداء بالصبر والاحتساب. بقيت لي ابنتي ريم سنتان ونصف، أعانني الله على تربيتها التربية الصالحة".