"ألحق يا أكرم الدبابة جاية علينا هتدعسنا".. صرخت بأعلى صوتها وارتجف قلبها واهتز جسدها بفعل الصدمة، هي في مواجهة دبابة إسرائيلية وجهًا لوجه ومن مسافة صفر، رأت الحمم النارية تسقط على رؤوس جيرانها وزوجها وأطفالها، حاولت الهرب من الباب الخلفي للخيمة ولكن سرعتها بالطبع لا تضاهي الدبابة الإسرائيلية، فشاهدتها بأم عينيها وهي تهرس عظام على زوجها وأولادها، وبعدها أتت نحوها هي وطفلتها وسحقتها تحتها...
ثم تركتها بحثًا عن فريسة أخرى، تحاملت على جروحها لأجل ابنتها وابنها الذين ما زالوا على قيد الحياة، فقررت أن لا تستلم وحدثت نفسها: "إما أن ننجو أو ننجو؛ فليس لدينا خيار آخر"، من وجه طفلتها المصابة استمدت القوة، وضعت طفلتها على ظهرها وأخذت تزحف على الرمال غير آبهة بجروحها المفتوحة، يكفى أن تنجو الصغيرة وتصل لبر الأمان.
رمى بنفسه فوق أبنائه.. فطحنوا
السابع من حزيران 2024 تاريخ لا يُنسى بالنسبة لها، عاشت أفظع ما يمكن أن يعيشه المرء على وجه الأرض، لوهلة قد يظن القارئ أن حكايتها مشاهد مأخوذة من فيلم أمريكي "آكشن" ولكن جنون جيش الاحتلال في غزة تفوق على أفلام هوليود. هنا تروى لنا السيدة رجاء أكرم عن الجنون الإسرائيلي الذي واجهته بشكل مباشر، عن موت الزوج والأولاد في يوم واحد أمام ناظريها، عن سحق دبابة إسرائيلة لعائلتها دون أدنى رحمة.
تقول عن اليوم الذي يسبق دعس الدبابة لعائلتها: "كنت أنا وجارتي نصنع خبز الصاج على النار، وإذ بطائرات الأباتشي تخترق الأجواء وتقصف بشكل عنيف وعشوائي البيوت في منطقة العزبة برفح قرب الحدود المصرية، أطفأنا النيران وركضنا نحتمي داخل الخيمة وإذ بأصوات الرشاش الخاص بالبوارج البحرية تتعالى،فتملكنا الرعب، فقررنا أن ننزح وتغادر المكان في صباح الغد.
رحلت جارتي لخيمتها التي تبعد 4 أمتار عنا وبقيت أنا أحتضن صغاري وهم يرتجفون، ورفضوا أن يتناولوا طعام العشاء وناموا جياعًا خائفين، وبقيت طوال الليل أراقب حركة الدبابات الكثيفة وإضاءة الجرافة التي كانت تجرف بيوت الناس بعد قصفها".
في صباح اليوم التالي أمعنت الدبابات في جبروتها وأخذت تطلق رصاصها إلى جانب طائرة الكواد كابتر على كل من يتحرك، كان أول من استشهد زوج جارتها محمد فتعالى الصراخ ثم صمتوا للأبد، لم يُترك لهم المجال لاستيعاب أن الدبابات طحنت عظام أصدقائهم في الخيمة المجاورة سرعان ما باغتتهم أيضًا فكانوا بلمح البصر تحتها أيضًا...
تضيف رجاء: "زوجي أكرم يردد الشهادة ويصرخ باسم الله أكبر؛ فظن طفلي إبراهيم أنه يؤذن للصلاة فأكمل الطفل حيّ على الصلاة حي على الفلاح، وفور أن جاءت الدبابة مسرعة رمى زوجي نفسه فوق الأطفال الثلاثة ليحميهم، ولكن إرادة الله كانت أقوى، فاستشهد هو وطفليَّ محمد وأحمد وبقي إبراهيم الذي جاء يركض نحوي محتميًا، وكنتُ قد أُصبت أنا وطفلتي بإصابات بالغة بعد أن أصابتنا الدبابات في المرأة الأولى.
تقدمت الدبابات نحوي وابنتي
رأيتُ بعض الدبابات الأُخر من بعيد، فظننتها تأني نحونا من جديد فقلت لطفلي أن يُمثل أنه ميّت، لا أدري كم المدة التي بقيت فيها أنزف أنا وطفلتي لكني لمحت سيدة من بعيد تركض لتنجو بنفسها وبأطفالها فأخبرتها أن تأخذ إبراهيم معها لتوصله لمواصي خانيونس حيث خيمة جده وبالفعل ذهب معها وبقيت أنا وطفلتي نناجي الله".
كانت رجاء في مدينة الأشباح التي تغمرها رائحة الموت من كل صوب وحدب، ولأجل ابنتها سوسو اتخذت موضع السجود وتركت الطفلة تركب على ظهرها وأخذت تزحف، والرمال تدخل في قدمها المصابة وتتسلل رائحة الدماء لأنفها، والذباب يتطاير حول جروحها المفتوحة ومهما حاولت إبعاده عن الجرح فإن هذه المحاولات لا يجدي نفعًا.
امرأة أخرى توصل ابنتي للمستشفى
زحفتُ حوالي 600 متر حتى احتمت بحائط متشقق بفعل القصف، فظنت حتمًا أنه سيقع عليهما، ولكن لا بأس هي على أرض أسمنتية وانتهت من الزحف على الرمال، وإذ بصوت ينتشلها من أفكارها يطلب منها الاقتراب نحوه ليساعدها، ولكن القناص المتمركز في المكان يصر على استهداف كل من يتحرك، أغمي عليها لا تدري كم من الوقت بقيت غائبة عن الوعي، وإذ بسيدة تركض بطفلها للهروب، فطلبت منها أن تضع ابنتها سوسو في أقرب مشفى، وبالفعل كان ما أردات، ونجت طفلتها وبقيت هي تحارب وحدها.
تكمل رجاء: "بعدما غادرت ابنتي مع السيدة، بقيت أنا وإذ بابن السيدة يخبرني أنه يوجد رجل في الجهة المقابلة على البحر تمامًا سيساعدني، ولكن طاقتي كانت وقتها قد نفذت، ورائحة الدم تصيبني بالغثيان، والنزيف بقدمي يزداد، تحاملت على نفسي وزحفت مجددًا على الإسفلت والحجارة تجرح قدمي المصابة، حتى وصلتُ للشاب الذي سيساعدني فأخبرني أن أقترب لأن القناص يطلق رصاصاته بغزارة، طلبت منهم أن أشرب فأعطوني زجاجة الماء، ثم وصلت إليهم بأعجوبة ووضعوني على غطاء وصاروا يجرونه على الأرض حتى وصلنا لسيارة إسعاف".
كدتُ أن أستسلم
لم تستطع احتمال الألم أكثر من ذلك، فطلبت من المسعف أن يعطيها أي مسكن للألم، ظنت أنها ستموت حتمًا الآن، ولكن وجه شقيقها قواها من جديد فأخذت تصرخ: "أنت محمد أخويا وين بنتي وين إبراهيم".. تكمل: "طمأنني عليهما وذهبنا نحو المشفى وأخذتُ أخبر الأطباء أن الدبابة سحقتني تحتها وقتلت عائلتي وجيراني أيضًا، ظنوا حينها أنني أهلوس، وبعدها غبت عن الوعي حتى استيقظت وابنتي ممدة على السرير الذي بجانبي".
لم تكن رجاء تستوعب ما الذي جرى وسرعان ما استرجعت الأحداث كشريط سينمائي يمر أمامها، ارتجفت وهي تتذكر كيف استشهد زوجها وابنيها، وكيف مرت الدبابة من فوقهم جميعًا، أصيبت هي بطلق متفجر في القدم اليمنى وأربع كسور وتهشم بالعظام، وإصابة في اليد اليمنى، وشظايا في كل جسدها، تقول: " أجريت خمس عمليات متتالية وكانت قدمي اليمنى معرضة للبتر ولكن رحمة الله فوق كل شيء".
أما طفلتها سوسو أصيبت بطلق متفجر بالقدم اليمنى وكسور، وخلع بالقدم اليسرى، وكدمات شديدة بالظهر.لا زالت رجاء تعاني وطفلتها ألم الإصابة، ومرارة الفقدان، وكل ما تتمناه حاليًا أن تجد جثة زوجها وجثث أبنائها لتكرمهم بالدفن في مكان معروف لتزيل شوقها وقتما أرادت.

