بنفسج

نازحون وأكثر: أن تستعد للموت مشتاقًا لغزة وشمالها

الأربعاء 14 اغسطس

اشتقنا لغزة كتير.. للبيت.. للشوارع.. بدنا نروح على البيت".. ذابت قلوبهم من شوقهم الجارف نحو مدينتهم الأحب والأقرب لهم، كان الفراق عنها نارًا تحرقهم على مهل، لم يعانوا من محرقة الإبادة الجماعية فحسب، بل كان أكثر من ذلك بكثير، فأن تستعد للموت في أي لحظة وتموت مشتاقًا لنظرة أخيرة على غزة ولو كانت خرابًا شعور قاس على النفس، نال منهم الاشتياق ما نال.

تغمرهم رغبة بالعودة لفسحة الدار، لبحرها، لأنوارها، يعملون يقينًا أن الدار لم تعد كما كانت ببهجتها وضحكتها لكنهم يقسمون أنهم سيعودون، وليدفعوا من أعمارهم ثمنًا لأجل اللقاء. فالاغتراب في نفس البقعة الجغرافية لم يكن هينًا عليهم، ركضوا تحت الموت المحقق لأجل نجاة محتملة وبعد أشهر من النزوح علموا أن أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه المرء أن يقرر المغادرة عن الأرض فيقولون: "ياريت متنا بغزة وشمالها ولا نزحنا للجنوب".

اضطر ما يقارب من مليون مواطن غزي إلى النزوح من مدينة غزة وشمالها إلى جنوبها بعدما أجبرهم الاحتلال على النزوح هناك بزعم أن أماكن نزوحهم مناطق قتال خطيرة، وادعى أن الجنوب آمن، فوقعوا في فخ النزوح عنوة، نحكي هنا مع ثلاث سيدات نزحن إلى الجنوب، عن التجربة ومشاعرهن المشتاقة لكل زواية في غزة، عن الندم الذي لا آخر له، وعن قلة الحيلة في حضرة الموت.

آية الزين: المخاطرة بالنفس لنجاة محتملة 

 "أن تكون عاجزًا عن فعل أي شيء لحماية عائلتك ونفسك شعور صعب للغاية، وما آلمني أيضًا رؤيتي لبيتي وجدرانه تهوي أمام عيني، قررنا وقتها أن نغامر لنحافظ على أرواحنا، ركضنا ونحن يغمرنا الخوف، أنظر في عيون أبي وهو تائه لا يعلم أين يصحبنا وعلى ماذا يحزن".
 
"كلمة شوق كتير زغيرة بالنسبة لشعورنا اتجاه البيت وغزة وشوارعها وكل شي فيها هو شعور محزن أنه بفصلني مسافة لا تتجاوز الساعة وأكون فيها ومش قادرة أوصللها، عندي شوق وحنين. كتير كبير للبيت لشعور الدفء بالبيت لشعور أني أخلص مشواري وأروح لبيتي لغرفتي لسريري على قد ما هالفكرة صغيرة وبسيطة على قد ما كبيرة وبعيدة"

آية الزين القاطنة في شرق جباليا أجبرت  هي وعائلتها على اتخاذ قرار النزوح في العاشر من أكتوبر، بعدما انهال الركام عليهم إثر قصف الاحتلال العنيف آنذاك، خرجوا وقتها على مسؤوليتهم الشخصية إذ قُصفت سيارة الإسعاف ومنع الدفاع المدني من الدخول للمنطقة، فكان لزامًا عليهم المخاطرة بالنفس لنجاة محتملة.

تقول: "أن تكون عاجزًا عن فعل أي شيء لحماية عائلتك ونفسك شعور صعب للغاية، وما آلمني أيضًا رؤيتي لبيتي وجدرانه تهوي أمام عيني، قررنا وقتها أن نغامر لنحافظ على أرواحنا، ركضنا ونحن يغمرنا الخوف، أنظر في عيون أبي وهو تائه لا يعلم أين يصحبنا وعلى ماذا يحزن".

نزحت آية رفقة عائلتها نحو جباليا البلد، وكان الجيش الإسرائيلي وقتها يمارس حربًا نفسية باتصالاته ومنشوراته التي يلقيها على المدينة بأكملها للنزوح جنوبًا، فأصر الأبناء بعد تعرضهم لصدمة إثر الرعب الذي عايشوه عن قرب أن يتوجهوا للجنوب ظنًا منهم أنه آمن ولكن والدهم كان له رأيًا آخر، "يابا اسمعوا مني من طلع من داره انقل مقداره"، لكن عاندت آية وأشقاؤها، والآن وبعد أشهر من الفراق عن شمال غزة، أيقنت أن والدها كان محقًا، وندموا جميعًا على النزوح خارج حدود الشمال.

عرف النازحون من غزة وشمالها معنى الشوق الحقيقي، والحنين الذي يتسلل لهم في ليالي الخوف، علموا أن الشعور الذي لا يمكن مجابهته هو العودة، أن تعود للحياة التي تريد آمنًا مطمئنًا فحسب، ولكن ما باليد حيلة سوى الصبر ولحظات من شرود الذهن يتخيل فيها المرء مشهد العودة.

تضيف لبنفسج: "كلمة شوق كتير زغيرة بالنسبة لشعورنا اتجاه البيت وغزة وشوارعها وكل شي فيها هو شعور محزن أنه بفصلني مسافة لا تتجاوز الساعة وأكون فيها ومش قادرة أوصللها،  عندي شوق وحنين. كتير كبير للبيت لشعور الدفء بالبيت لشعور أني أخلص مشواري وأروح لبيتي لغرفتي لسريري على قد ما هالفكرة صغيرة وبسيطة على قد ما كبيرة وبعيدة.. اشتقت كتير لكل شي بغزة".

صور من غزة قبل الحرب والدمار.jpg

ما الدرس الذي علمتك إياه الحرب ولم تعلمه لك الحياة؟ تجيب آية: "لقد اكتشفت شخصية جديدة لي بالحرب، وسعيدة باكتشافي ذاك، لقد علمتني كيف يستغل الإنسان أبسط الموارد لصنع شيء من اللاشيء، وكيف أتحمل المسؤولية بالكامل وأدير كل الأعمال بمهارة، والأهم من ذلك فقد آمنت وأيقنت دون شك أن الناس ليس بالخير الذي كنت أظن، وليس شرطًا أن يقابل الخير الذي أفعله بخير مثله ربما يعود لي بسوء غير مبرر".

تقسم آية قسم المؤمن الذي آمن أن لا شيء يعادل البلاد، ولا شيء كالبيت، ولا حبٌ كحب غزة أن تعود لها بكامل الرضا والفرح، تتخيل في لحظات يأسها وخوفها وأملها أيضًا مشهد العودة المهيب إلى شمال غزة، فينبض قلبها من حماس، تتخيل اللحظة فماذا لو كانت واقعًا، تردف لبنفسج: "وعدت نفسي حينما تنتهي الحرب ونعود لبيوتنا المدمرة أن أعود سيرًا على الأقدام مثلما خرجت تمامًا، ونقول للدنيا كلها أرأيتم أجبرنا على النزوح مشيًا وها نحن نعود بذات الطريقة سنمشي بكل حب وحماس على الرغم من الدمار الذي سنراه، سنبكي نعم بكاء المقهور، لكننا في الوقت ذاته سنذرف الدموع فرحًا بعودتنا".

تختم حديثها معنا بالقول: "أول مكان سأركض نحوه فور العودة هو البيت ثم الأرض التي تعد تعب العمر لوالدي، زرعها وحافظ عليها كولده ولكن الاحتلال بكل بساطة، دمر أحلامنا فيها، سأعود لأزرعها من جديد كل المزروعات التي نحبها، وسأساهم في تعمير غزة كلها بحكم عملي كمهندسة معمارية، سأصمم وأفعل ذلك بكل حب، أأمل أن يكون ذلك اليوم قريبًا".

آلاء المقيّد: خرجنا مرغمين كطفلٍ فارق حضن أمه

الحنين إلى غزة.jpg

أما آلاء المقيد يغمرها الشوق إلى مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، لم تكن ترغب إطلاقًا في المغادرة من حدود غزة وشمالها، بكت بكاء الطفل الغائب عن حضن أمه لسنوات. وهي تقنع عائلتها بأن يبقوا في غزة، لم تختر الرحيل أبدًا لكنه قُدِر لها رفقة العائلة.
نزحت آلاء عدة مرات داخل حدود غزة ثم نزحوا نحو رفح واستقر بهم المطاف بالنصيرات، تقول:"في كل مرة نزوح داخلية كانت تلاحقنا القذائف والصواريخ، والأحزمة النارية، ونتشاهد على أرواحنا، حتى إذا ما طلعت علينا شمس الصباح نتساءل هل حقًا نحن أحياء؟

أُخلى المخيم من سكانه تدريجيًا أول أيام الحرب، كنّا نحاول التشبث بفكرة البقاء وحث الجيران عليها لندعم بعضنا البعض، لكن اشتداد القصف جويًا وبحريًا وانتشار القناصة في نقاط قريبة دفع غالبية العائلات للنزوح، أما نحن فبقينا داخله لأسبوعين آخرين، حتى صارت القذائف والصواريخ تسقط من كل اتجاه على مدار الساعة. خرجنا حينها مرغمين بشعور طفل يُفرّقه القدر عن حضن أمه الآمن".  

تضيف: "لم يكن قرار النزوح إلى الجنوب واردًا في تفكيرنا، حتى أننا لم نأخد من المنزل إلا الأوراق الثبوتية، وملابس تكفينا لغياب أسبوع فقط. اعتقدنا أنها لن تطول هكذا، تنقلنا من مكان لآخر داخل المدينة، ولاحقتنا القذائف العشوائية كالظل، حتى سقطت ذات مرة في فناء المكان الذي ننزح فيه، واشتعلت النيران حولنا ونجونا بأعجوبة، وفي لحظة ما انعدمت الخيارات أمام الأهل وصار الخيار هو النزوح إلى الجنوب، حاولت ثنيهم عن هذا القرار، بكيت كثيرًا لأجل البقاء، أخبرتهم أننا ذاهبون إلى المجهول، لكن صوت العقل حينها كان يؤكد أنّ الجنوب الحل الأمثل، وسنعود في غضون أسبوعين". 

ذكريات غزة قبل الحرب.jpg

ما تمارسه غزة على قلوب الغزيين لا نعرف تفسيره، نحبها وحتى لم تحبنا هي، لها سحر فريد من نوعه، ماذا تفعله بنا غزة لنحبها هذا الحب؟ لنبكيها كل هذا البكاء؟ في خرابها نحبها، نردد معًا في السراء والضراء نكون لأجلها ومعها، شلال من الدموع أطلقته آلاء وهي تلوح بيديها لغزة، ألقت نظرتها الأخيرة على شوارعها واتجهت إلى الجنوب، تكمل: " وصلنا حاجز نتساريم الذي يفصل الشمال عن الجنوب، كان الطريق صعبًا وشاقًا، أسلحة الجنود تُحيطنا من كل جانب، والدبابات تستعرض أمامنا قوتهم المزيفة. تنتظر بلا سبب فقط بهدف الإذلال والترهيب، كنا نسمع عن القتل والتنكيل على الحاجز، وخفنا أن يطال الأمر الأطفال على وجه التحديد، لكن تركنا الأمر لمفاعيل الاستغفار، وتيسرت معنا". 

لم تحظ آلاء بلحظة هانئة منذ غيابها عن البيت، شعرت بالاغتراب بعيدًا عنه وعن مخيم الشاطئ، لا تفصلها سوى ساعة ونيف عنه وممنوعة من الوصول له بقرار جائر، فلم تتخيل بحياتها أن يصبح بيوم من الأيام دخولها غزة حلم بعيد المنال، وأن تكرر تجربة جدها الذي انتظر العمر كله لأن يعود لبلدته التي هجر منها وبيته في نعليا، ولم يعد، بقي متأملًا يسرد ذكريات مفتاح الدار.

صور من غزة قبل الحرب.jpg

تهدهد شوقها بالصور التي تؤنسها في ليالي الحرب القاسية، تدور بعجلة الزمان إلى ما قبل 7 أكتوبر، حيث غرفتها وجلسات العائلة الهادئة، ومكتب العمل، والطريق نحوه، واجتماعات العمل السريعة، تضيف: "أكثر الأماكن التي أشتاقها وأفتقدها، هي غرفتي، مملكتي الخاصة ومأمني التي اخترت أبسط تفاصيلها بعناية فائقة تناسب شخصيتي، كنت أهوّن عليّ تعب اليوم كله، بمساءٍ أعود فيه إليها، أقرأ أدوّن، وأتأمل، وأراجع نجاحاتي وإخفاقاتي، بسكينة وهدوء. كنت أشعر بالاحتياج لها في حال غبت عنها لقضاء مشوار عائلي أو مع الأصدقاء، فما بالكم غياب لشهورٍ طويلة، وفي ظروف استثنائية كالتي نعيشها".

ما هو أكثر مكان تشتاقين للركض نحوه؟ تجيب آلاء: "آهٍ على شوقنا لبحر غزة الذي كان قبلة الغزيين والمتنفس الذي يسع لنا جميعًا. كنت كلما شعرت بضيق أو حزن أو حتى فرح، وجدت نفسي أمامه، صامتة، أبكي، أفكّر، أمشي على الشط، أتناقش مع الأصدقاء في قضايا كثيرة، ثم أعود إلى المنزل بقلب كالطير. لقد كان وجهتنا التي ضيّعها الاحتلال في الحرب، وصارت كل الأشياء حوله ركام ودمار". 

لقد جعلتنا الحرب نعرف قيمة الأشياء، علمتنا أن اليوم الهادئ هو نعمة لا تقدر بأي ثمن، وآلاء تعلمت درسًا عميقًا في تقدير النِعم مهما كانت بسيطة، وشكر الإله عليها. حتى روتين يومك الذي كنت تعتقد أنه ممل، هو نعمة تستحق الحمد.  تظل آلاء تسأل نفسها كيف سيكون شكل الحياة بعد هذه المأساة؟ وهل هناك أمل بالعودة؟ "الحقيقية أنني لا أستطيع تصور شكل الحياة بعد الحرب، لكن قلبي يحن لجمعات العائلة ولا ينقصها أحد، ولمساحتي الخاصة" تقول.

كلما غزى قلبها الندم بالقول: "ياريتنا ما طلعنا".. تستذكر أن أمر المؤمن كله خير، وأننا نسير في كنف الله لا يحصل إلا ما قدره. لكن عز عليها أن لا تودع عمها وخالتها وعائلتها بعدما استشهدوا في غارات إسرائيلية بشعة، فما كان من قلبها إلا أن نطق وقال: "لو بس ضلينا جنبهم".

منال حسن: "اايييه كتير مشتاقة أروح ع البيت"

ذكريات من غزة قبل الحرب.jpg

"اايييه كتير مشتاقة أروح ع البيت".. لم تختلف مشاعر منال حسن عن سابقيتها فجميعهن يشتقن لعودة قريبة لغزة، تسكن منال حي الشيخ رضوان الذي اجتاحه الاحتلال بريًا، فأصبح مكان سكنها عرضة لهجوم القوات، نزحت داخل حدود غزة مع زوجها وأطفالها الثلاث، وعندما اشتدت الأحزمة النارية توجهوا نحو الجنوب.

تقول: "كان الوضع في بداية الحرب صعبًا جدًا، ابني الأصغر تصيبه حالة من الإعياء وترتفع درجة حرارته مع كل قصف قريب، يرتجف ويخبرني بأنه خائف، لذلك كان قرارنا للنزوح جنوبًا ذلك الوقت، نزحنا نحو النصيرات ثم إلى رفح ثم  خانيونس ".لم تسنح الفرصة لمنال أن تأخذ برفقتها سوى حقيقة صغيرة من الملابس الصيفية، وبعض الأوراق الثبوتية، فلم تستطع آنذاك التوجه لشقتها لجمع بعض أشيائها، وقالت: "ما ظنيت نطول كلها أسبوعين وبنرجع".

دارت عجلة الأيام وامتد الأسبوعان لعشرة أشهر، وما زالت منال تنتظر عودة لمكانها المفضل، تود كثيرًا أن تمشي في شوارع الجلاء والشيخ رضوان، أن يبللها المطر في ليلة شتوية باردة في شارع بيتها الطويل. تضيف: "أحيانًا تصيبني نوبة من الندم على خروجي من شمال غزة، لكن لم يكن أمامي أي خيار، فالقصف والموت كان يحيط بنا هناك من كل الاتجاهات، وحالة ابني الصحية التي تسوء بمجرد سماع أي انفجار جعلتني أنا وزوجي نتفق على النزوح للجنوب، بحثًا عن الأمان والهدوء ولم نجده".

يعلق زوجها ويقول: "مشتاق أروح على الشمال، ندمان إني طلعت لو حكولنا ارجعوا سباحة لأجري أول واحد واروح". تسرح منال وزوجها بذاكرتهم نحو أيام الهدوء، ويودان العودة بالزمن إلى هناك، يتخيلون مع أطفالهم لحظة الركض نحو الشمال، حينها سيبكون كثيرًا على المدنية الجميلة التي أصبحت ركامًا ولا يكون منهم إلا القول: "بتتعمر بولادها.. هنعمرها".