بنفسج

" زانتكما الشهادة": د. عبير سمور في رثاء والديها

السبت 24 اغسطس

"يابا احكي الشهادة".. قالتها بدموعها وبقلبها الذي ينزف وجعًا، ما بين الحياة والموت ثوان معدودة، لم تتخيل يومًا أن يغادرها الملهم الأول، نادت بأعلى صوتها لعل صراخها يُسمع لكن لا مجيب، ركضت نحوه بعدما تطاير ركام البيت عليها لتسمع صوت أنفاسه، فكان يلفظ آخر نفس بالحياة فحثته على نطق الشهادة، وبجانبه والدتها مسجية على الأرض وقد نفذ أمر الله باستشهادها، فما كان منها إلا أن غطت شعرها وهي ترتجف رجفة لم ولن تتعرض لمثلها في حياتها.

لم تعلم كيف ثبتت كل هذا الثبات لحظة الفاجعة، ولكن الله منحها الصبر عند الصدمة الأولى، فيا حظ من حمد ولم يجزع، أورثها الرجل الأول في حياتها يقينه أن لكل أمر حكمة، وأن أمر المؤمن جله خير.نتحدث مع د.عبير محمود سمور لتخبرنا عن استشهاد والديها دفعة واحدة، وعن لحظات القصف الأولى، والنزوح، والنور الكامن في وجه والديها في آخر أيامهم.

استشهاد الأب:" إذا مُتت بموت شهيد" 

مجهول الهوية هكذا كُتِب على كفن أبي.jpg

تعرف سمور لبنفسج عن نفسها بالقول: "أنا طبيبة أسنان من قطاع غزة تحديدًا من مخيم الشاطئ، تخرجت حديثًا وكان من المفترض أن تكون هذه السنة التي كنت انتظرها بلهفة، كونها السنة الأولى لي بعد تعب خمس سنوات، كيف ستكون الحياة بدون تعب الدراسة! وهل سأضع قدمي على أول سلمة في حياتي المهنية؟ لكنّ الحياة كان لها رأي ثاني...

وعن يوم الاستهداف، تقول سمور: " في السابعة صباحًا يوم 23 ديسمبر 2023  نالنا نصيبنا من الإبادة الجماعية، صاروخٌ يعرف وجهته جيدًا"، ظنت عبير حينما وجدت نفسها بين الركام أنها تحلم، وفور فتحها لعينيها سينتهي الألم، ولكنها أدركت أنه ما هو إلا واقع وحقيقة، فركضت بين رائحة البارود والغبار، والحجارة الإسمنتية المتناثرة نحو والديها، نغزة في القلب أخبرتها أن وقت رحيلهم أزف، لم يصل لمسامعها رد على صراخها، فعلمت أن الروحين في أمانة الله من جديد. 

" في السابعة صباحًا يوم 23 ديسمبر 2023  نالنا نصيبنا من الإبادة الجماعية، صاروخٌ يعرف وجهته جيدًا"

تكمل عن والدها محمود سمور: "مجهول الهوية، هكذا كُتب على كفن والدي، كان خطأ غير مقصود بسبب كثرة الشهداء بالمشفي حينها، آلمتني الكلمة وأخبرتهم أن هذا والدي، وقلت إنك أب حنون، زوج مُخلص، صديق وفي، وإنسان برقة قلب الطير. كان دومًا يخبرني أني ابنته المفضلة، لا أنسى عندما أجده جالسًا بجواري وأنا أتدرب لامتحاناتي العملية في كلية طب الأسنان، وعيناه يظهر فيهما الفخر، كنا قد تواعدنا بأن يكون مريضي الأول، ولكنه نال الراحة الكبرى، حيث لا ألم، لا حزن، ولا ظلم".

كان والدها خلال الحرب دائم التردد على المسجد الأقرب لقلبه "الجامع الأبيض"، لا يترك فرضًا إلا ويصليه فيه، وحينما كانت تعترض عبير على ذلك خوفًا من غدر الاحتلال للمصلين يقول لها: "إزا موتت يابا بموت شهيد".. ثم يخبرها عن حبه وطمعه في الشهادة فما كان منها في تلك المواقف إلا أن تبتسم له وتحصنه بدعواتها.

في ليلة ما قبل استشهاد والدها، انتابها شعور برغبة في العودة للبيت، لم تطق فراقه أبدًا، تود أن تشعر بالسكينة ذاتها التي تعتريها وهي بين جدرانه، خانتها دموعها فسقطت تعلن الاشتياق أيضًا، بكت كثيرًا أمام والدها، "يابا بدي اروح ع البيت"، فقال: "بكرا بنرجع".

كانت تعلم على وجه اليقين أن لا عودة تلوح بالأفق لكنه قالها بغية المواساة. بقت على أمل بعودة قريبة لترمي ثقلها في البيت لكن والديها غادرا الدنيا، ودُمر البيت الذي كان شاهدًا على كل ذكرى للعائلة، فما كان منها إلا الرضا.

"إمي شهيدة.. ونيالها"

أمي شهيدة هنيئًا لها.jpg

أما عن والدتها عايدة شاهين التي نالت الشهادة رفقة زوجها، كانت سيدة بيت من الطراز الرفيع، محبة للبيت وأُنسه، تحكي عبير: "لعل تصرف والدتي في هذه الحرب كان شيئا غريبًا علينا، لطالما كانت القوية التي تحتضني في كل الحروب السابقة، كنت أفسر خوفها بأن هذه الحرب ليست عادية، ولكنّي اليوم بعد فراقها استدركت؛ فلم يكن خوفها على نفسها بل خوفها عمن حولها، لم يكن يخيفها جبروتهم وقصفهم الجنوني، كانت تعلم بأنها ستكون ممن سيصطفيهم، رحلت وتركت لنا عاداتها اللطيفة في كل زاوية من زوايا البيت".

كان وجهها في البيت بمثابة أمن وسلام للعائلة، انتظرت لسنوات طوال لحظة تخرجها من الجامعة لتقيم الأفراح والليالي الملاح، وتفخر بين الأحبة والمعارف: "بنتي الدكتورة"، لكنها هرولت نحو الشهادة تاركة ابنتها وأخوتها في أمانة الله، وسيصلها حتمًا دعوات الابنة، التي يعتريها شعور بالفخر لكون والدتها نالت لقب الشهيدة، فأي اصطفاء أعظم من هذا.

وعن المواقف التي يتراءى لها وجه والدتها فيها، تضيف: "أذكر جيدًا في أول أيام الهدنة الأولى عندما ذهب أخي لتفقد بيتنا إن كان سليمًا، وعند عودته ما كان من والدتي إلا أن تغرغر الدمع في عينيها وسجدت سجدة شكر! كان البيت نصيبها الدافئ من هذه الدنيا، اشتاقت لعودة له لتمارس طقوسها الصباحية ولكنها الجيش الإسرائيلي قتلها وهي في أوج اشتياقها لكل شيء".

السؤال الأصعب "وين نروح"

شهداء غزة ليسوا أرقامًا.jpg

عاشت عبير وعائلتها  مرارة التشريد والنزوح قبل استشهاد والديها، ففي 9 نوفمبر 2023 اتخذوا قرار النزوح شرقًا، بغية البحث عن أمان، ورفضوا جميعيهم الاستجابة لمطالب الاحتلال الإسرائيلي بالنزوح إلى جنوب الوادي، ولكن بقي السؤال ذاته يجول في عقولهم: "وين نروح"، تنقلوا من مكان لمكان وفي كل مرة يصفعهم السؤال ذاته.

تكمل لبنفسج: "نزحنا تسع مرات، لكن الأصعب بينهم حينما حوصرنا لأول مرة والرصاص كالمطر من فوقنا، فما كان منا إلا التسلل من خلال فتحة في حائط وصولًا إلى مجمع الشفاء الطبي". تردف عبير لبنفسج: "عانينا ووالداي كثيرًا من مرارة النزوح المتواصل والغياب عن البيت وكان أكبر أمنية لنا أن نستقر في مكان واحد، وأنا في كل مرة نزوح أبكي لوالدي كثيرًا، وأخبره باشتياقي لحياتي ما قبل الحرب".


إصرار على إكمال الدارسة

من قصص الشهداء في غزة.jpg

لم ينفك الجيش الإسرائيلي عن ارتكاب المجارز الجماعية منذ السابع من أكتوبر، وإلقاء أوامر الإخلاء على كل مكان بغزة، ولم يتبق من الأماكن التي يحبها الغزيون سوى أسمائها، كلها أضحت ركامًا، وها هي عبير تقول: "وإن أعادوا الأماكن فمن يعيد لنا الرفاق"، نطقتها والحسرة تغمر قلبها، فصديقان المشاوير الليلية الهادئة قد رحلا سويًا، سيفتقدهما شارع الرشيد وكوب "البراد" المنعش في أيام الصيف، وستشتاقهما عبير يوم أن تفتتح عيادتها الخاصة ولا ترى سوى صورهما.

بقي لعبير أختان وشقيقان، يقتسمون الألم الكبير، والشوق المفرط لوجه الوالدة والوالد، ولحياة عادية تشبه الحياة، تبين لبنفسج: "بعد ١٠ شهور من القصف والتشريد،  وبعد تدمير بيتنا كليًا، كانت محطتنا  بيت عمتي في حي الشيخ رضوان لا أدري إن كان النزوح الأخير أم لا، ولكني أصر هنا على العودة لدراستي حتى وإن كانت الإمكانات لا تسمح، لم يهن عليّ تعبي، ولا تعب والديّ، ولا تلك الليالي التي لم أنم فيها، فبعد انقطاع لعدة شهور، أنا اليوم أزاول سنتي الأخيرة بعد أن تكلل جهدي بالحصول على تقدير جيد جدًا مع مرتبة الشرف". تنهي حديثها: "ربح البيع.. أقولها مجددًا هنيئا لكما بالشهادة".