في بداية الحرب، خرجنا جميعًا من المنزل أنا و طفلي محمد ذي العام ونصف العام وجنيني في الشهر السابع وزوجي الذي ذهب منذ السابع من أكتوبر على رأس عمله في مستشفى الإندونيسي مجدًا وخادمًا للإنسانية والوطن باذلًا كل جهده لإنقاذ الجرحى والمصابين وإسعافهم، مقاومًا التعب دون كلل أو ملل.
يهاتفني بين الحين والآخر ليطمئن علينا إذا توافرت الشبكة بالطبع، يخبرني كم هو قلقٌ علينا وكم هو مشتاقٌ لنا ويوصيني على محمد و على نفسي. كنت أقف على النافذة أتأمل ما يحدث أبكي وأستودع زوجي الحبيب لله.
حبيب الفؤاد، سخي المودة، صديق العمر .أحمد الذي فقد حاسة البصر في عينه اليسرى وهو في الثامنة أثناء الانتفاضة الأولى و فقد والدته و هو في العاشرة ... ألا يستحق الحياة؟!

أحمد الذي يحمل شهادتين الأولى هي التمريض و الثانية هي التخدير و الإنعاش، أحمد الذي قضى أكثر من ستة أعوام متطوعًا متقنًا و مميزًا بين مستشفيات قطاع غزة، وأثبت جدارته في عمله حبًا للخير و عطفًا على الناس ... ألا يستحق الحياة.
أصبحت الحرب تزداد طولًا ... و تم حصار مستشفى الأندونيسي في الثامن عشر من نوفمبر، عاد أحمد هاربًا ومتعبًا من القصف الذي لحق بهم. و بعد مرور شهرٍ قضيناه و نحن نعيد بناء أحلامنا في خيالاتنا هاربين من الواقع، استيقظت على أحمد وهو يلعب مع طفلنا محمد.
ثم ذهب أحمد ليعد القهوة، لا أعلم حينها كيف رمشت فما وجدت سوى أنني لا أرى شيئًا سوى الدمار والغبار والشظايا الحديدية والزجاجية حولي، فسمعت أحمد يصرخ باسمي هديل "كانت حروف اسمي آخر ما نطقه".
رفعت طفلي محمد عن دماء أبيه، وحملت رأس أحمد في حضني و مسكت يده، كنت أحاكيه وددت لو كان يسمعني حينها أو يرد عليّ، سقطت يده من يدي و بدأ يشهق كما تخرج الروح من الجسد، فجريت إلى النافذة أطلب النجدة من الجمع الذي أتى ليخرج الشهداء و الجرحى، و عدت إلى جوار أحمد أحاكيه من بصيص أمل ينبع من صميم قلبي.
كنت أدعو الله مرارًا أن نعود للبيت زائدين لا ناقصين، لا زالت لم تنتهي الحرب ... لم يبقى لنا منزل ولا زلنا نفس العدد، لقد استشهد زوجي و ولد ابنه أحمد الذي لم ير والده.
في آخرِ كل يوم أتنهد تنهيدة المسافر إلى أرضٍ بعيدة لا يعرفُ فيها أحدًا، كابدَ في سبيلها الصحراءَ والجوعَ والعطش، لكنه في النهاية وصل إلى وجهٍ فاتخذهُ وُجهة، وأعينٍ صغيرة تُضيء القلب والدرب فسارَ بهما..

الحياةُ مع طفلينِ في عمرٍ متقارب ووُحدة شديدة شيءٌ لا يُحتمل، الخوف من فقدان قدرتي على إتمام كل ما طَمحتُ إليهِ وخططتُ له في حياتي وحياة من أعول يزاحم رأسي ليل نهار، هذا غير أنني أُجاهد اليأس والخوف وثِقل المسؤولية في اليومِ ألف مرة..
النواميس الكونية لا تحابي أحدًا إلا القلق، يضيع العمر في الخوفِ من أشياء ربما لن تحدث أبدًا وإن حدثت فكل ما دون ضياع الجنة دون.
في النهاية أقول..
لتكن عيناهما اليقين الوحيد الذي أستقوى به على شكي ويداهما الدفء الذي أستقوى به على البرد في روحي ووجودهما فسحة الأمل في شريط حياة عنوانه الألم لتكن نفسي الفداء
أتذكر عندما كنّا نتأملُ في محمّدِنا و هو صغير، عندما كان يلعب وحدَه و يجوب منزلنا، ونتحدثُ عن المستقبلِ الذي سنراه يلعبُ مع أخيه، و ثمّ نراه الأخ الكبير .كنّا ننتظِر تلكَ الصباحات السعيدة بفارغِ الصّبر ،ها قّد كَبُر محمّد و أصبحَ يلعبُ مع أخيهه، وأنا أراهُم وحدي و أتمَنى أنّ تكون ، ها قّد كَبُر محمّد وأصبحَ ربَّ الأسرة .