اقتربت حرب الإبادة على غزة من العام، يومًا بيوم، ساعة بساعة، دقيقة بدقيقة، قتلًا وذبحًا وتجويعًا وتهجيرًا، يحسبها أهلنا في غزة كما لو كانت أمدًا. ونحن الذين نتونس بالدعاء اقترابًا منهم بالألم، واستئناسًا معهم بالحزن، قيامًا وقعودًا وسجودًا، حتى أن الدموع لم تعد تنساب إلا لمصابنا فيهم، فلمن الدموع اليوم من بعدهم!
لم نعد نشعر بجلل أي مصاب يمسنا؛ لا مرض، ولا ضيق في الرزق، ولا انقطاع في سبل الحياة، فما كل ذلك أمام طفل قطعت كل أطرافه، أو ألم أم تلملم عظام ولدها عظمة على عظمة حتى تحتضنها وتكفنها وتدفنها في مكان تعلمه! أي حزن أمام أب يتلوى أطفاله جوعًا أمامه ولا سبيل لإسكاتهم غير حياته يدفعها ثمنًا لكيس طحين مغموس بالدم. فأي حزن، أي لوعة. نقف في عظمة جبروته، ونركع في حضرت قوته، ونسجد في علياء ملكوته.
يارب انقطعت السبل إلا إليك، انقطع الرجاء إلا منك، انقطع الأمل إلا فيك، إي رب كن لهم عونًا وجبرًا وناصرًا ومعينًا، إي رب أطعمهم، إي رب اسقهم، إي رب اجبر كسرهم وداوي جرحهم واحقن دماءهم
11 شهرًا، يارب ندعوك، يارب عجل بالإجابة... وإننا وقد خاضت في أذهاننا المشاعر، لم تتأخر الإجابة، وهل خبت الدعاء؟ هل انقطعت الأصوات؟ هل ملّ الناس وخابوا؟
لا تكاد آية سورة الروم تختفي عن مخيلتي "وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون". إلى آخر الآيات التي يراد بها أن الملكوت بيد الله وحده، يعز من يشاء ويذلك من يشاء، إليه الأمر كله، وأن عاقبة الذين كفروا وعاثوا في الأرض فسادًا لعذاب شديد.
ذلك النصر وعد من الله، فلابد من تحققه في واقع الحياة ( لا يخلف الله وعده) فوعده صادر عن إرادته الطليقة، وعن حكمته العميقة، وهو قادر على تحقيقه، لا راد لمشيئته، ولا معقب لحكمه، ولا يكون في الكون إلا ما يشاء. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون). حتى لو بلغنا من العلم مبلغًا ومن اليقين درجات، يبقى العلم الذي لا نعلم منه سوى القليل. فما بالنا لا يستجاب دعاؤنا؟ هل غلقت الأبواب؟
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل. قالوا: يا رسول الله؛ وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ربي فما استجاب لي. قال الشيخ الألباني: صحيح دون قوله : وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا.
وإن للتقوى باب، والدوام على الدعاء لمخرج، والإلحاح منجاة. فلا ملل ولا فتور ولا خبوت ما دامت هذه الدماء تراق. "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ {الطلاق:2 -3}.
وقال صلى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حق توكله لزرقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا. رواه الترمذي. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح ، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو. ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير ).
علينا الإخلاص بالدعاء والقنوت للحق ليل نهار، (وادعوه مخلصين له الدين)، والإخلاص في الدعاء هو الاعتقاد الجازم بأن المدعو وهو الله عز وجل هو القادر وحده على قضاء حاجته و البعد عن مراءاة الخلق بذلك. وكذلك الدوام على الاستغفار والتوبة والعودة إلى الله "وقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) .
فلندع الله في تضرع وخشوع وتذلل (ادعوا ربكم تضرعا وخيفة إنه لا يحب المعتدين ) .فلندع الله في إلحاح دوم ملل أو ضجر في كل الصلوات والأوقات، في السحر والمغيب والشروق ويوم الجمعة وقبل الإفطار ووقت نزول المطر وبين الأذان والإقامة، فلندع ف يالمسجد الأقصى، والمسجد الحرام، وكل بيت هو له، فلندع دعوة المظلوم، و دعوة المسافر، و دعوة الصائم، ودعوة المضطر ، و دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب.
وفي كل وقت استحب فيه الدعاء، فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثا ويستغفر ثلاثا . رواه أبو داود و النسائي. لندع الله في هذه الشدة، فكما كان لنا في اليسر فنحن بين يديه في العسر، قال النبي صلى الله عليه و سلم : (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) رواه أحمد .
ولا يستعجل أحدنا الإجابة ويقول بترك الدعاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي) رواه البخاري ومسلم. ولا يقول المؤمن رب اجبر أهل غزة وانصرهم إن شئت، بل يجتهد ويلح.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإنه لا مستكره له) رواه البخاري و مسلم