"اللي شاف منظر البيت وهوا هيك بحكي ولا ممكن حد يطلع حي".. لم يكن الأمر مستوعبًا أن تكون تحت ستة أسقف خرسانية، تنطبق عليك بالكامل، فتشعر أن النَفَس يتضاءل والموت وشيك، فتنادي على عائلتك المتناثرة تحت الحجارة لعل أحدًا يسمعك، فركت عينيها ومسحت وجهها بعنف، لعلها تدرك ما الذى جرى تسأل نفسها: احنا بحلم ولا علم أنا عنجد واعية؟".
حتى نادها أحمد: "ماما أنقذيني".. فبث فيها الأمل لإنقاذه، لم تستطع أن تعلم مكان انبعاث الصوت حتى جاء رجال الدفاع المدني فبدأت عملية البحث وركضت هي بين الحجارة تبحث معهم وسط الظلام الدامس، ولكن لا أمل وسط رائحة الدماء المنبعثة. هنا تحكي السيدة إيمان عياش الناجية هي وطفلها وزوجها، فيما فقدت أولادها الثلاثة كريم ومعين وملك، عن لحظات الاستهداف لهم وهم نيام، عن الذكريات التي تحرق قلبها، والألم القابع الذي لا شفاء منه.
ليلة الموت المحقق
في 22 نوفمبر/ تشرين الأول 2023، الساعة الثالثة فجرًا اُستهدف البيت المكون من أربع طوابق بصواريخ إسرائيلية جعتله ركامًا وطحنت أجساد ساكنيه النيام تحته، تقول إيمان: "قُصفنا ونحن نملك أمل أن الهدنة على وشك الحدوث، استيقظت من نومي وأنا أسأل نفسي هل هذا واقع حقًا؟ ما الذي يحدث؟ ما حماني هو وجود عمود فوقي ساعد في نجاتي، صرتُ أنادي على زوجي يا محمود فأجاب بعد عدة صرخات، ثم ناديت يا ملك يا معين يا أحمد يا كريم ولا مجيب، طرت بفعل قوة الصاروخ مسافة ستة أمتار".
فتكمل: "رأيتُ عمي وهو ينزف ولكن لم أستطع أن أنقذ أحدًا، ثم بدأ صوت أحمد يعلو "ماما أنقذيني"، لكنني لا أعلم أين هو، ناديت "محمود وينك ساعدنا، مد يديه لي حاولت أن أنتشله ولكن لم أستطع حتى ظهر رجال الدفاع المدني فطلبت منهم إنقاذ العائلة، وصرت أمشي بين الحجارة أنادي وأبحث معهم على الرغم من الكسور التي بجسدي ورائحة الكبريت التي تغمر أنفي وعدم قدرتي على التنفس ناديت كثيرًا حتى أغمي علي".
"كلما تأتي سيارة الإسعاف أخرج للخارج لعلي أجد أحدًا حيًا، لكن كل من يأتي من الشهداء، فقلت الأهم يخرجوا من بين الركام حتى لو شهداء...
مرت ساعة وإيمان تنتظر أن يخرجوا لها بطفل واحد من أطفالها، أحمد ينادي ولكنه غير موجود، حاولوا إبعادها ولكنها أصرت على البقاء، بعد الساعة وجدوه وأخرجوه وكان في حالة مزرية، يداه تنزف وكل جسده حروق، لم يكن مكان فيه سليمٌ أبدًا، حتى تقويم الأسنان كان مكسورًا، أخذوه بالإسعاف رفقة والدته فقالت لهم: "ضايل ولادي الباقين وفي ناس كتير 100 شخص جوا حاولوا تنقذوهم".
كانت حالة إيمان الجسدية سيئة للغاية، قالوا لها بالمشفى هيا لنداويكِ ولكنها قالت ليس ضروريًا، المهم أولادي الآن، تردف: "كلما تأتي سيارة الإسعاف أخرج للخارج لعلي أجد أحدًا حيًا، لكن كل من يأتي من الشهداء، فقلت الأهم يخرجوا من بين الركام حتى لو شهداء، حتى طلب مني أحمد البقاء بجانبه وقال: "خايف يقصفوني كمان مرة".. فبقيت اطمئنه حتى جاء والده للمشفى وكان قد رفض أن يأتي معنا أولًا حتى ينقذ عائلته".
كانت اللحظة الأصعب في حياة إيمان حينما قالوا لها: "تعالي اتعرفي.. هي الأكفان".. فسألت: "أولادي".. فأجابوا بالنفي، كان إحساس الأم يخبرها أن الثلاثة اُستشهدوا فصدق إحساسها، ذهبت للتعرف على الجثث هذه زوجة شقيق زوجها وأولادها، وتلك الثانية بأطفالها، جميعهم كانوا أشلاء، حماتها وعمتها وبنات العم، "ايش بدك تشوف أجيت اودعهم ما قدرت، هل عنجد هاد ولا حلم صاروا يحطوا فيهم واحد ورا الثاني 45 شهيدًا في ثلاجات الموتى، معين، عياش، نجاح، أحمد، محمد،ريم، ابتسام، فاطمة".
أمل في انتشال الجثث
نجا البعض فيما بقى عدد كبير تحت الركام، وظل السؤال قائمًا "يا تُرى ماذا يشعرون"، "هل نزفوا حتى الموت"، "هل نادوا على والدتهم"، "هل تمنوا الأمنية الأخيرة".. كل الأسئلة ظلت بلا إجابة، ووالدة الثلاثة تبكي ويحترق قلبها لأجل نظرة أخيرة، 6 أيام وهم يحاولون يوميًا انتشال الجثث، كانت قدما أحد الأطفال ظاهرتين، الفراش الذي ينام عليه، ألعابه كل شيء ظاهر ولكن لا إمكانية لرفع طبقة الباطون، "جبنا الباقر ليرفع الباطون عنهم بس فش سولار طلعوا يدوروا ع سولار إن شاء الله يكون ب 100 مليون بس طلعوهم".
في الواقع جلبوا السولار بسعر خيالي، والباقر بدأ في عملية رفع الطبقات الإسمنيتة الستة من على الأجساد، كانت أعمار أطفالها 12 عامًا و7 أعوام وعامين ونصف، رُفعت أول طبقة وإذ بالباقر يتوقف عن العمل، فبدأت رحلة تصليحه، والبحث عن سولار إضافي بعد نفاذ الكمية الأولى.
تردف: "مع رفع كل طبقة كنا ننتشل شهداء ممكن كانوا بالبيت وأطفالي في آخر طبقة، بعد ستة أيام وصلنا لهم بنجاح طلبت من الدفاع المدني توديعهم وإذ بهم يرفضون- ممنوع- ، تم دفنهم وأنا كنت أنتظر الحضن الأخير، دفنوهم في مقبرة جماعية، وأنا أود أن أخذ حقي في احتضانهم، دفنوا ولا أعلم مكان قبورهم ولم أتمكن من زيارتهم ولا مرة".
لم تنس إيمان طفلها معين الخلوق الذي استيقظ قبل قصفهم بيومين في نفس الساعة التي تم الاستهداف، يقول لأمه: "حاسس حالي بدي أموت". طمأنته والدته وقالت له القصف بعيد جدًا عنا، تقول عن طفلها البكر معين: "كان حنون بحب يساعد، بروح يعبي مي النا، بساعد عمه بتوزيع كابونات على الناس، كان يقسم مصروفه مع صحابه المحتاجين، حتى معلماته بكلموني مش مصدقين أنه راح، أهلي بعيطوا عليه وبيقولوا فقدنا شي ما بتعوض، قبل الحرب كان يوم ميلادي حوش من مصروفه وجبلي كيكة، روحي انفقدت بغيابه".
ألم أحمد
أما عن إصابة طفلها الناجي الوحيد أحمد تحكي إيمان أنه في حالة يرثى لها، فقد مكث ثلاثة أسابيع تحت الموت البطئء، لا معدات ولا إمكانات تنقذه، يصرخ من الألم ولا مسكنات ولا علاج، كانوا فقط يغيرون الشاش على الجرح فقط، كان لزامًا أن يُجري عملية لكن لا مخدر موضعي، وحتى إن وجد لا توجد إمكانيات لإجراء عملية.
تكمل والدة أحمد: "ناشدنا كل المختصين أن يضعوا أحمد على قائمة المرضى للعلاج بالخارج وبعد ثلاثة أسابيع، سافرت معه للعلاج بالإمارات، تركنا كل شيء ذكرياتنا وأولادي وقبورهم والناس والشارع وغزة، وغادرنا مجبرين، حينما كانوا يقولون لي هل يمكن أن تسافري أقول: مجنون اللي بسيب غزة أحلى بلد بالكون هي منك وأنت منها". ولكنها كانت مجبرة لإنقاذ ما تبقى لها".
حينما وصلوا للإمارات أُصيب أحمد بانهيار نفسي وجسدي، كانت يداه على وشك التعفن، كانت المعدات الطبية في المشفى الإماراتي مذهلة كما وصفتها إيمان، تقول: "كانت بإيديه شظية بادية تعمل تسمم ونزيف، 9 شهور كاملات قضيناهم بالمشفى، وشهرين عمليات بشكل متواصل ما نطلع من باب المشفى، كانت يديه لا تتحرك أبدًا ولكن بعد 9 أشهر بدا يرجع للحياة، لكن خبروني الدكاترة النفسيين بوقت أحمد ما كان يرفض العلاج ويرمي الإبر، إنه متعرض لصدمة رح تضل ملزماه طول عمره".