"وعهد الله ما نرحل.. عهد الله نجوع نموت ولا نرحل.. عهد الثورة والثوار.. والجماهير ما نرحل.. واحنا قطعة من هالأرض.. وعمر الأرض وعهد الله ما بترحل"...
لطالما ترددت هذه الأغنية بين صفوف الفلسطينيين واليوم أهالي شمال غزة الذين رفضوا النزوح في أكتوبر 2023 الماضي، وبقوا في الشمال وأفشلوا مخطط التهجير، يغنونها بعلو الصوت، جسدوها واقعًا حيًا مرئيًا للعالم، يتشبثون بأرضهم ولم يقبلوا الرحيل وها هم يجددون العهد في ذكرى حرب الإبادة الجماعية الأولي.
إذ ألقي الاحتلال أوامره لأهالي جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، للنزوح جنوبًا، فقالها الناس علانية في الشوارع وهم ينزحون داخل المدنية نفسها: "بعد كل اللي شفناه وعشناه واحنا رافضين ننزح، بدنا ننزح بعد كل هالصبر.. خليهم يحلموا، ضايلين حتى الموت".
قصص الحرب والنزوح
نحكي هنا مع غزيات من شمال غزة رفضن وعائلاتهن النزوح جنوبًا في بداية العدوان الإسرائيلي، وعلى مدار العام، والآن وبعد الأوامر الأخيرة يكررن ما قلنه خلال عام من القتل الممنهج للفلسطينيين. إن "شمال غزة منطقة قتال خطيرة" لطالما رددها الاحتلال في منشوراته واتصالاته، ولكن أهالي الشمال المتبقيين في الأرض والمتمسكين بها، لم يأبهوا لأحاديثهم.
"تدفعنا إسرائيل هنا في الشمال للذهاب هناك لتنفيذ مخططها الذي أفشلناه منذ البداية، ولكننا سنفشله مجددًا ولطالما فينا نفس نتنفسه سنبقى نقف ضده، وسنصمد في أرضنا ولا نتركها أبدًا".
تقول السيدة أم كرم أحمد التي تعيش في مخيم جباليا: "لقد عشنا أسوء الأيام في بداية الحرب وما زلنا، قُصفت البيوت على رؤوسنا، وانهالت القذائف علينا، فتهجرنا بالإجبار من مكان سكننا، ولكني شخصيًا لم أفكر أبدًا بالرحيل خارج حدود مدينة غزة، فكانت فكرة النزوح للجنوب مرفوضة من أول يوم وما زالت".
وتضيف معلقة على منشورات الجيش الإسرائيلي الأخيرة: "تدفعنا إسرائيل هنا في الشمال للذهاب هناك لتنفيذ مخططها الذي أفشلناه منذ البداية، ولكننا سنفشله مجددًا ولطالما فينا نفس نتنفسه سنبقى نقف ضده، وسنصمد في أرضنا ولا نتركها أبدًا". تكمل: "احنا شايفين شو بعيشوا أهلنا بالخيام في الجنوب، وحياة الذل وانتهاك الخصوصية، فما عندي استعداد أعيشها أبدًا فش طاقة فيا للاحتمال ولو بدي اعيشها بحط خيمتي ع ركام بيتي، أنا عايشة بغرفة ببيتي المدمر وضايل بس العمدان بس هيني ثابتة فيه حتى الموت".
"بدي أولع بمناشير الإخلاء النار.. الورق كويس بلزم".. قالتها ياسمين سليمان وهي تضحك مبدية تعجبها من الاحتلال الذي لا يمل من دعوات النزوح نحو الجنوب، تعيش في معسكر جباليا الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي، وفي مايو/آيار المنصرم، وخلال الاجتياح الأخير للمعسكر، نزحت وعائلتها من البيت بعدما كانوا رافضين للخروج منه، وبقوا لآخر نفس فيه حتى ظلوا وحدهم في المنطقة ورأوا الدبابة تقف أمامهم.
فتقول عن تلك الذكرى السيئة: "نحن رفضنا النزوح للجنوب منذ بداية العدوان، وبقينا في منزلنا، وعشنا أسوء الأيام من قصف ومجاعة، في الاجتياح الأخير لجباليا، نزحنا تحت قصف القذائف، من شوارع جانبية في حارتنا، هربًا من الدبابة، مشينا سيرًا على الأقدام ونحن نحمل الحقائب الشخصية، ونحن نبكي على فراق البيت، بقينا لما يقارب الشهر نازحين بعيدًا عن البيت.
ندعو الله أن تبقى لنا غرفة لنعيش بها، فاستجاب الله لنا، حين عدنا كان البيت مدمرًا ولكن العمدان باقية وبقيت لنا غرفة سليمة فعشنا بها". بقيت ياسمين رفقة أهلها في البيت المدمر، يصلحون ما استطاعون إصلاحه، وبعد 4 أشهر من العيش في البيت تحت القصف وأزيز الطائرات، جاءهم قرار الإخلاء بشكل فجائي.
تضيف لبنفسج: "لم أستوعب الأمر وبدأت اسأل نفسي هل سننزح مرة أخرى، هل سنعيش ما عشناه ثانية، هذه المرة سيدمر باقي البيت حتمًا، أخرجني من هواجسي صوت رصاص الكواد كابتر يخترق سطح المنزل، وإذ بالماء ينهمر علينا بعد اختراق الرصاص لبراميل المياه، فلم يكن منا إلا الخروج من المنزل ركضًا دون أن نأخذ أي شيء معنا".
حقيبة النزوح.. حمل ثقيل دائم
مع كل ما تعرضت له ياسمين منذ بدء حرب الإبادة الجماعية إلا أنها لم تفكر مرة واحدة في الاستجابة لدعوات الاحتلال الإسرائيلي بالنزوح جنوبًا، لا تستطيع تخيل نفسها خارج جباليا التي تحب، فشوارع المخيم تستهويها وتعجبها على الرغم من ضيقها، وهي في عينيها أجمل مكان بالعالم، فتقول: "حمدت الله كثيرًا على بقائنا هنا فلا أستطيع تحمل فكرة أننا خارج المخيم.
في كل مرة نزوح ننزح في أقرب مكان له، ونعم لقد تم تدمير معسكرنا بالكامل ونعيش في بقاياه، لكننا فيه وهذا يكفينا ليعطينا طاقة للاحتمال، نعم أنا خائفة وأخاف في كل اجتياح ومع كل غارة لكنني أفضل الموت هنا في شمالنا الحبيب على النزوح جنوبًا".
أنا هند شبير واحدة ممن بقوا بشمال غزة برفقة عائلتها، نزحوا داخل المدينة أكثر من 6 مرات، وفي كل مرة كانت تحمل معها حقيبة صغيرة بها بعض المقتنيات والملابس والأوراق الشخصية، فلم تمهلها الحرب أن تحمل كل ما تريد فالنزوح يحتاج لطاقة عالية لتحمل كل شيء، يكفيها قلبها الثقيل المليء بأوجاع الحرب.
تقول لبنفسج: "لقد حُرمت من إكمال دراستي الجامعية، فأكتوبر المنصرم كان بداية دخولي الجامعة لأدرس العلاقات العامة والإعلان، لكن لم أستطع إكمال الحلم الذي لطالما تمنيته، وها أنا أنزح طوال العام من موت لموت، ومع ذلك أؤمن بأن عوض الله آت، سيعوضنا عن كل لحظة ألم عشناها هذا العام".
تنزح الآن هند وأهلها في حي الرمال بغزة، وبالرغم من كل محاولات الجيش الإسرائيلي دفعهم نحو جنوب غزة إلا أنهم تمسكوا بحبل البقاء، ولم يهمهم الموت طالما كان في المكان الذي يريدون، إذ حوصروا في مشفى الشفاء عند اقتحامه من قبل قوات الجيش، تروي هند: "حينما تمت مداهمتنا داخل المشفى كان الوضع مرعبًا جدًا، وقنابل الإنارة تضيء عتمة الليل، والقصف الجوي يدك المكان.
حينها خرجنا في الليل خائفين تائهين لا ندري إلى أين الوجهة، لكن أبدًا لم نفكر في الاستجابة لهم والنزوح جنوبًا، فأنا مقتنعة من كُتب له الموت سيموت فلا داعي للهرب".لم تمل هند من تكرار إعلان تمسكها بالبقاء في شمال غزة، حيث المكان الشاهد على كل ذكرياتها.
تحادث زملائها ممن ذهبوا للجنوب، فيخبروها بمدى المعاناة والمأساة التي يعيشونها هناك، من موت وعيش بالخيام وفقدان لأدني مقومات الحياة، وندم يتغلغل في أعماقهم كل يوم على الخروج من غزة، تقول: "هنا زي هناك كل مكان في غزة غير آمن.. وخلال العام اكتشفنا كذبة الاحتلال لخدعة المناطق الآمنة".
"وعهد الله ما نرحل.. عهد الله نجوع نموت ولا نرحل.. عهد الثورة والثوار.. والجماهير ما نرحل.. واحنا قطعة من هالأرض.. وعمر الأرض وعهد الله ما بترحل"
إن النزوح في حد ذاته مهين للكرامة الإنسانية، فأن تحمل حقيبتك وتمشي في الطرقات هائمًا على وجهك لا تدري إلى أين الوجهة أمر صعب ومذل، تكمل لبنفسج: "إن النزوح داخل غزة مرهق للنفسية جدًا، فما بالكم لو ننزح نحو الجنوب حيث دبابات الاحتلال وجنوده وأوامراهم للتفتيش واعتقالهم لمن يريدون، لم نفكر بالأمر ولن نفكر باقون هنا كثبات شجرة الزيتون بالأرض".
ومن الجدير ذكره، أن "إسرائيل" أمرت سكان شمال غزة في 13 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، بالنزوح نحو الجنوب بزعم أنه منطقة آمنة والشمال منطقة قتال خطيرة، ولكن سرعان ما تبين زيف الرواية الإسرائيلية إذ قصفت على جسر وادي غزة سيارات تحمل نازحون للجنوب، والمجازر المتواصلة في المنطقة الوسطى وخانيونس ورفح أثبتت كذب الجيش الإسرائيلي.
تهجير قسري وممرات غير آمنة
الآن وفي أكتوبر 2024 وبعد عام على الإبادة الجماعية تجدد "إسرائيل" الدعوة لسكان شمال غزة وتحديدًا "جباليا، بيت لاهيا، بيت حانون".. فواجهها السكان المتبقين الذي صمدوا في وجه مخطط التهجير القسري، بالرفض وتجديد العهد على البقاء في الشمال ليحفظوه من محاولات الاحتلال لضمه بالكامل.
في ما أصدرت وزارة الداخلية بيان تدعو أهالي شمال غزة بالثبات والبقاء، "ندعو المواطنين عدم الاستجابة لتهديدات الاحتلال بإخلاء منازلهم والانتقال لجنوب قطاع غزة، والانتقال لأقرب مكان مجاور لمنطقة سكنهم عند الشعور بالخطر".
وأكدت الوزارة على أن الجيش الإسرائيلي يخدع الغزيين بإدعاء وجود ممرات آمنة للجنوب، وهذا أثبته عام من الإبادة إذ قصف الجيش خيام النازحين في المناطق الآمنة مرات عدة، وأعدم المواطنين بالقنص المباشر أثناء المرور على حاجز نتساريم.