يوم الأربعاء، ٢٧ فبراير من عام ٢٠١٩ عدت من يوم دراسي عادي في عامي الأخير بالكلية ليحدث ما لم يكن عاديًا، لم أكن أعلم أن تكَّات عقارب الساعة تنذر باقتراب موعد لقائي الأول مع موضع هشاشتي النفسية الأبدي والأكثر فتْكًا.
"كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ"، أقرؤها بنصف عين وأمضي مسرعة قبل أن يطرح عقلي تساؤلات لا أريده أن يسألها
الأخبار في كل مكان عن حريق محطة مصر، ومقاطع الڤيديو كذلك لأناسٍ يركضون داخل المحطة والنـار تتطاير من أجسادهم؛ كل ذلك ألقى في نفسي هلعًا قاتلًا، وكادت المشاهد أن تسوقني للجنون.
كان حادثًا غير مقصود، مكثت بعده أشهرًا بآلام جسدية متفرقة بلا أسباب طبية، وانعدمت قدرتي على ممارسة حياتي بشكلها الطبيعي، فالكوابيس تبدأ فور أن تلمس رأسي الوسادة حتى أنِّي لا أتبين إن كنت أراها نومًا أو يقظة.
أعاد عليّ كل ذلك مشهدُ الشاب الغزِّي "شعبان الدلو" الذي تأكله النار حيًا وعمود الخيمة المائل على جسده يكبِّله عن الفرار، عادت الكوابيس بعد خمس سنوات ومعها انهالت على عقلي أسئلةٌ لا تُقال.
أعرف أنها ليست المرة الأولى التي تتحقق فيها على الأرض محرقة للبشر صنعها الإنسان عامدًا؛ لكنها المرة الأولى التي تُذاع فيها على الهواء مباشرة. لاستواء النفس البشرية وصحة العقل الإنساني دعائمُ يزلزلها عندي تصورُ مشاهد أجساد البشر متحركة والنار تنبعث منها؛ لطالما مقتتُ -ولازلت أمقتُ- من يحسبون أنفسهم على الدين ويستخدمون هذا الأسلوب الترهيبي في الدعوة ومعه أصوات الصراخ كموسيقى تأثيرية.
ولا أنسى طريقتي المعتادة في قراءة الآية "كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ"، أقرؤها بنصف عين وأمضي مسرعة قبل أن يطرح عقلي تساؤلات لا أريده أن يسألها.
ولكن النزر اليسير من حسن الأدب في كارثة كهذه يقتضي أن يستسلم الشاهدُ على محرقة لبشر مثله أحياءً لما تغذيه في جانبيه الملائكي والشيطاني، أن يستلهم منها ما تمنحه من نور ويقبل ما تُثقله به من ظلام، وأن ينصاع لأطوار تحويلها إياه إلى نسخة جديدة من نفسه.
هو حدث جلل وصدمة عابرة للأجيال تلك التي تُحيل شخصًا شديدَ العاطفية مثلي لا يرى أن أي مخلوق مهما بدر منه يستحق العقاب ويميل إلى العفو ثم العفو ثم العفو، إلى شخص شديد الإيمان بذات الآية، يقرؤها بعينين متفحصتين، يتحسس حروفها المسطورة في المصحف مفعمًا باليقين بأن الذي خلق نفوسَنا هو بها أعلم، وبأن الجحيم هو المصير الأنسب لمن يُصرُّ على اختياره، فـ"لا يهلك على الله إلا هالك".