في تعداد التقويم الميلادي في حساب الأيام المستقرة العادية دون قتل أو إبادة أو تهجير أو تجويع بقي 55 يومًا، بينما لا حساب لانتهاء أيام الحرب والإبادة، وقد قطعت منها الأيام 400 "أربعمئة"، وهو ما يتجاوز العام من الأيام.
ماذا يستطيع الإنسان تحقيقه في 55 يومًا، هل يصل إلى وزن مثالي؟ هل يقرأ كتابًا؟ هل يحسن علاقته بالمحيط الاجتماعي وأهل بيته؟ هل يزيد 1000 متابع له على وسائل التواصل الاجتماعي؟
يحاول الناس العاديون حساب هذه الأيام توقيميًا لما تبقى منها، وشطب ما تحقق من أهدف فيها، والركض لتحقيق ما لم يبلغ منها. وماذا يستطيع الإنسان تحقيقه في 55 يومًا، هل يصل إلى وزن مثالي؟ هل يقرأ كتابًا؟ هل يحسن علاقته بالمحيط الاجتماعي وأهل بيته؟ هل يزيد 1000 متابع له على وسائل التواصل الاجتماعي؟
الإجابة، نعم، يستطيع الإنسان العادي الذي يعيش مستقرًا تحقيق هذه الأهداف حتى نهاية هذا العام. لماذا هذا التساؤل وهذه المقاربة الآن؟
إنها محاولة للاقتراب من الغزيين الذي يقلبون أوراق الوزنامة الدامية؛ اليوم قتلت عائلتي جميعها، اليوم بترت قداماي، اليوم حصلت على كيس طحين، اليوم نزحت إلى خيمة في محيط المشفى.
اليوم ذُبح الناس في مجزرة استشهد فيها 20 مدنيا بريئا، اليوم حرقت الخيام بمن فيها، اليوم استشهد توأم لأم بعد انتظار 10 سنوات من إنجابهما، اليوم حصلت على حذاء مهترىء بعد أن قضيت أشهرًا حافي القدمين، اليوم أكلت حبة بندورة بعد أشهر من اشتهائي لها.
وهذا تقويم الإنسان الذي يعيش تحت وطأة الحرب، وليس فيها يوم عادي على الإطلاق، لا تقويم طبيعي، ولا أهداف قريبة أو بعيدة، موت وجوع واحتراق... ومع ذلك نرى أهل غزة يتزودون بالقليل لخوض حياة يحدها الموت وتحيطها الفواجع من كل جانب؛ نجد الغزية والغزية يمشون مسافات بعيدة للحصول على حجزمة إنترنت لحضور محاضرة إلكترونية.
نجدهم يجلسون فوق أنقاض جامعة مهدمة يناقشون رسائل الدكتوراه والماجستير ووابل الصواريخ فوق رؤوسهم، وماذا يريدون منذ ذلك واحتمال الموت قائم في كل ثانية. لم يمت وازع الحياة والرغبة فيها يومًا بين أيام هذا التقويم الذي لم نعد نشعر بمرور الأيام فيه، فنقول تركض الأيام ركضًا وأثمانها انقضاء سنة من أعمارنا... بينما هي في غزة مرور عام يقضي فيه الناس.
ولا شك أن الهدف الأسمى للناس في غزة هو حلم انتهاء الحرب وعودة إلى أدنى درجات الروتين الحياتية اليومية، كأن تغفو على فراش دافىء نظيف، والطبخ على غاز المطبخ العادي، أن لا يخافوا من قدوم الشتاء، أن يشربوا ماء حلوة عذبه... ألا تصبح حزمة الإنترنت طموحهم الأسمى للدراسة والعمل.
يعيش الإنسان بتراكمات إنجازاته، وفي غزة لم تفقد الإنسان في غزة ما استثمره في نفسه إلا إذا استشهد، فقد كل شيء مادي ما عدا ما راكمه في سنوات التقويم الفائتة، علم ودين وطاقة وإرادة والقدرات المهنية لديه، وكل هذه العناصر استثمرها الغزي في إدارة حياته في الحرب ومخاطرها. لذلك نقول إن إرادة الحياة ومجابهة الأيام الصعبة فيها والنجاة؛ كل ثانية وكل لحظة هو التقويم الحقيقي للإنجاز.
تغرق الإنسانية بالمادية بكل تفاصيلها، وتتصل بها تعقيدات ومركبات لا حصر لها، تجعل من ميزان الأخلاق أقل قيمة إذا قسناها على ترتيب الأولويات، وقائمة الإنجازات السنوية والأهداف المرحلية، مثل تحسين نوعية الحياة والرفاهية وتطوير العمل وجني الأرباح وخوض مشاريع جديدة والسفر. بينما أوقات الحرب مدعاة لمراجعة كافة الموازين المادية والأخلاقية، فالقيمة الحقيقة التي تقاس بها الأعمال هي قيمة ترتبط بالصبر والقوة والجلد والإيمان.
وهذا ما أثبتته الحرب في كل أيامها الـ 400، فكيكف لامرأة مصابة بالسرطان لا تكاد تجد لها كرسيًا لتقلي العلاج وقد فقدت أبناءها وزوجها الذي يعيلها أن تقوى على التمتمة بكلمات الصبر والدعاء ....
هكذا يُفهم التقويم الزمني الحقيقي، وهكذا نتعلم من الأيام التي يقضيها أهل غزة في الحرب وهم يدفعون من أعمارهم وحيواتهم خلالها، وعلى ما يقيسون مضاء الأيام فيها: عدد الصواريخ، عدد الشهداء، عدد الجرحى، عدد المفقودين.