بنفسج

مين عايش؟ حوارات تحت الأنقاض يرويها محمود نطط

الإثنين 16 ديسمبر

محمود نطط شاهد على حرب الإبادة في غزة
محمود نطط شاهد على حرب الإبادة في غزة

عاش أهوال القيامة في بضع دقائق، عرف كيف يودع المرء الحياة في لحظاته الأخيرة، فرفع أصبعه للتشهد بعدما فقد أمله في النجاة من تحت الأنقاض، حتى رأى الأضواء التي تخترق الحجارة، فصرخ مرة دون أن يسمعه أحد. حرك أصبعه لينطق الشهادة وإذ به تلامس قطعة ألمونيوم فأخذ يحركها بقوة

 سمع شقيقه محمد الصوت، وركض نحوه، قال: "مين عايش"! صرخ محمود: "أنا أخوك محمود طلع بس عبود ابني قبلي مش مهم أنا". شرع بالمهمة حتى خرج محمود سالمًا، وبدأ بالعمل وهو مصاب لرفع الركام عن ابنه وزوجته. يروي الناجي من حرب الإبادة الجماعية محمود نطط، حكاية النزوح من غرب غزة إلى النصيرات، وما تلاها من أيام مريرة، حتى قُصف البيت الذي نزح له، فحدثت مجزرة، اُستشهد والدته وشقيقاته وبناتهن، وعدد كبير من أصحاب البيت والنازحين فيه، وأُصيب هو ووالده وبضع آخرين.

السير نحو المجهول

قررنا النزوح إلى الوسطى عند بيت أختي ونسايبي في ذات الوقت، عندما وصل الجيش مفترق المزنر في حي النصر. حقيقة لم أكن أريد مفارقة غزة، فاقترحت على والدتي أن أبقى أنا وليذهبوا هم.
 
يا بنطلع كلنا سوا يا بنضل كلنا سوا، ولو مكتوب النا نموت هنا هنموت، ولو مكتوب هناك برضو هنموت، ما تفكر كتير رب الخير ما بيجيب إلا الخير".
 
وفي صباح اليوم التالي مشينا سيرًا على الأقدام من حي النصر إلى الساحة حتى وجدنا سيارة إلى دوار الكويت آخر نقطة في غزة قبل تواجد حاجز نتساريم".

في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2023، نزح محمود وعائلته إلى الجنوب بعدما أجبرتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي مغادرة منزلهم الواقع في مخيم الشاطىء غرب مدينة غزة، بدأ حديثه عن يوم النزوح: "قررنا النزوح إلى الوسطى عند بيت أختي ونسايبي في ذات الوقت، عندما وصل الجيش مفترق المزنر في حي النصر. حقيقة لم أكن أريد مفارقة غزة، فاقترحت على والدتي أن أبقى أنا وليذهبوا هم.

 قالت الأم: "يا بنطلع كلنا سوا يا بنضل كلنا سوا، ولو مكتوب النا نموت هنا هنموت، ولو مكتوب هناك برضو هنموت، ما تفكر كتير رب الخير ما بيجيب إلا الخير". وفي صباح اليوم التالي مشينا سيرًا على الأقدام من حي النصر إلى الساحة حتى وجدنا سيارة إلى دوار الكويت آخر نقطة في غزة قبل تواجد حاجز نتساريم".

وبينما محمود وعائلته في الطريق نحو النصيرات، خافت عمته على أولادها وقررت العودة إلى غزة مرة أخرى، وأكمل هو والعائلة الطريق نحو المجهول، حتى وصلوا جنود الاحتلال. قال لهم الجندي: "من يلبس طاقية ليأتي عندي". كان محمود وشقيقه ورجل آخر لا يعرفونه، يرتدون قبعات، فنظر إلى شقيقه وقال: "خليك ورايا ما تبين". ونظر هو للجندي فقال له: "ليس أنت من أمامك.. أكمل طريقك".

وجد محمود وشقيقه العائلة ما بعد حاجز نتساريم بقليل وقد نال منهم التعب من التوتر والمشي، يقول: "قلت لعائلتي سآخذ الأمتعة أنا وشقيقي ونذهب مشيًا وأنتم انتظروا حتى نعود لكم بسيارة، وصلت المنزل المراد، وعاد زوج شقيقتي وأخي لجلب العائلة وبقيت أنا في البيت، عشنا سويًا حوالي أسبوع نجتمع سويًا في نهاية اليوم لنستمع للأخبار معًا، ونحلل سويًا ما يحدث، حتى تاريخ 22 نوفمبر انقلبت الحياة رأسًا على عقب".

يوم أن قُتلت "العائلة"

"حاولت كتير أتحرك لحتى قدرت أحرك إيدي وحركتها ومسكت إيد زوجتي.. حاولت أسحب ابني من تحت إمه ما قدرت، لحد ما يأست ورفعت أصبعي للتشهد فخبط بقطعة المونيوم فقدت أهز فيها لحتى سمعني أخويا وأنقذني، وبعدها بديت أحفر ع ابني وزوجتي وطلعتهم".
 
 "بدأنا عملية الحفر حتى سقف الطابق الذي كانت تقطن فيه أمي وشقيقاتي وبناتهن،  ظهر جزء من الجسد المسجى أمامي تحت الركام وعرفت أنها أختي، فغطيتها بالبطانية".
 

يوم استهدافهم شعر بنفسه يهبط من علو، وفقد الإحساس للحظات ثم عاد له فأحس بطفله يركله في ظهره، لم يستطع أن يلتف نحوه بسبب ثقل الحجارة فوقه، وزوجته كذلك تخبره أنها فوق طفلها والحجارة تعلوها، قال لها إنه يجب أن تتحرك، ولكن لم تستطع، انقشع الغبار فصارت رؤيته أوضح، ليرى أنوار الكشافات التي يشغلها الجيران، طلب المساعدة لكن لم يسمعه أحد، فالجميع يخاف الاقتراب كثيرًا خوفًا أن يُستهدف البيت مرة أخرى.

يكمل محمود: "حاولت كتير أتحرك لحتى قدرت أحرك إيدي وحركتها ومسكت إيد زوجتي.. حاولت أسحب ابني من تحت إمه ما قدرت، لحد ما يأست ورفعت أصبعي للتشهد فخبط بقطعة المونيوم فقدت أهز فيها لحتى سمعني أخويا وأنقذني، وبعدها بديت أحفر ع ابني وزوجتي وطلعتهم".

بعدها أتوه بكيس فيه أخته ريم، فتعرف إليها، ولكن الشك نال منه فقرر أن يجلب أخاه من غرفة الطبيب الذي يعالج له جروحه، رفض الطبيب في البداية تركه، وقال له إن شقيقك مصاب،لكن محمود أصر على أخذه، وفتح له الكيس وقال له: هل هذه ريم؟! فبكى محمد وهو يرد بالإيجاب.

وصل محمود إلى المشفى ولم يهتم لجروحه، بل انتظر على بوابته ليستقبل الشهداء والجرحى ويتعرف إليهم واحدًا تلو الآخر، في البداية جلبوا أخت حماه وأولادها شهداء وزوجها مصاب واستشهد لاحقًا فتعرف إليهم جميعهم. بعدها أتوه بكيس فيه أخته ريم، فتعرف إليها، ولكن الشك نال منه فقرر أن يجلب أخاه من غرفة الطبيب الذي يعالج له جروحه، رفض الطبيب في البداية تركه، وقال له إن شقيقك مصاب،لكن محمود أصر على أخذه، وفتح له الكيس وقال له: هل هذه ريم؟! فبكى محمد وهو يرد بالإيجاب.

كان محمود مصدومًا من هول ما يعيش، وهو يتعرف على الشهداء، جلبوا له سيدة اعتقد في البداية أنها حماته، فكتبوا على الكيس الخاص بها الاسم، وذهب إلى زوجته التي تُعالج في المشفى لتسأله عن أهلها، فأخذها لتتعرف على الجثث، وتمكنت من التعرف على بنات عمتها وعدلت على الأسماء المكتوبة على الكفن، حتى وصلت إلى شقيقها محمد وزوجته ريم شقيقة محمود، وردت هذا أخي وزوجته، ولكن اللحظة الأصعب حين فتحوا له الكفن الذي كُتب عليه اسم والدتها، لتقول لهم إنها ليست أمي.

قرر محمود بعد تعرفه على جميع من أتوا العودة إلى البيت للبحث عن والدته وشقيقاته ووالده، ولم يأبه لجروحه، صادف سيارة الإسعاف أمام المشفى تأتي بالشهداء من البيت والمصابين، وإذ بوالده حي بعد عشر ساعات من البقاء تحت الأنقاض، فسأل السائق: هل ستعود إلى نفس البيت؟ رد بالإيجاب. أخبره أنه يود الركوب معه ليبحث مع الفرق المختصة والناس هناك عن باقي العائلة. وحين وصل البيت وقف ينظر مدهوشًا ويسأل: "هل خرجت حيًا من هنا؟!

بدأ البحث عن العائلة لكن الأمر لم يكن بالسهل، قرر أن يجلب حليب طفله وملابس زوجته، وعاد إلى المشفى لهم ليطمئن عليهم، وحينها أخبروه أن شقيقته دينا حية ولكن لديها كسر بالحوض، وفي الوقت ذاته وصل خبر استشهاد حماه، فانهارت زوجته. استقر محمود ونزح في مدرسة وترك زوجته عند بيت عمها، وعالج جروحه وقدمه الذي لم يكن يستطع السير عليها، ثم عاد إلى النصيرات ليبحث عن عائلته تحت الركام، وجد هناك شاب ما زال يبحث بمعدات بسيطة، فقال له: "ما الذي أتي بك أنت مصاب.. نحن سنفعل ما يلزم؟" ولكن محمود رد عليه: "والدتي وأخواتي وبناتهم تحت الأنقاض لا أستطيع البقاء بعيدًا عنهم".

يكمل محمود: "بدأنا عملية الحفر حتى سقف الطابق الذي كانت تقطن فيه أمي وشقيقاتي وبناتهن، حتى وصلنا إلى جسد أحد ما، فقال لي من معي يوجد أحد هنا دعنا لا نضره بكثرة الحفر، فأخبرته أن يكسر الحجارة من الجهة الأخرى، حتى ظهر جزء من الجسد المسجي أمامي تحت الركام وعرفت أنها أختي، فغطيتها بالبطانية".

تحرك محمود من مكانه إلى الجهة الأخرى ليجد أخ زوجته يبحث عن أولاده الثلاثة تحت الركام، فلم يجد إلا قدم ابنه ظاهرة ولكن لم يتمكنوا إخراجه على الرغم من كل المحاولات، وخلال عملية البحث وجد محمود ابن شقيقته الذي يبلغ من العمر 4 أشهر، فلفه ببطانية تمهيدًا لدفنه، بعدها وجدوا جسد طفلة عمرها عامين.

استعان محمود بالجرافة ليساعدهم بالحفر والبحث عن أجساد الشهداء تحت الركام، وحينها وجدوا ابن شقيقته يوسف حيًا وكانت إصابته خطيرة، فركض به نحو المشفى وأوصى زوجته عليه، فقالت له: هو ابن أخي أيضًا لن أتركه.

أمي "بلا ملامح"

"لم أعرفها في البداية، فلم يكن لها أي ملامح يمكن التعرف عليها بها، سحبتها بعيدًا عن البيت، وأنا أكفنها حاولت فحصها لمعرفة من هي: أمي أم أختي، وصلت إلى قدمها فقلبتها يمنة ويسرة، وحينها تأكدت أنها أمي من عروق قدمها.
 
 لم أستطع التحرك، جاءني زوج أختي يحثني على إكمال البحث عن شقيقاتي، لكني لم أستطع الوقوف أبدًا فأخبرته أنني أود البقاء بجانب أمي".

بعد 4 أيام من البحث المكثف وجد محمود والدته، سحبها بالفراش الذي كانت تنام عليه، يقول: "لم أعرفها في البداية، فلم يكن لها أي ملامح يمكن التعرف عليها بها، سحبتها بعيدًا عن البيت، وأنا أكفنها حاولت فحصها لمعرفة من هي: أمي أم أختي، وصلت إلى قدمها فقلبتها يمنة ويسرة، وحينها تأكدت أنها أمي من عروق قدمها. لم أستطع التحرك، جاءني زوج أختي يحثني على إكمال البحث عن شقيقاتي، لكني لم أستطع الوقوف أبدًا فأخبرته أنني أود البقاء بجانب أمي".

عاد إلى البيت لإكمال البحث في اليوم التالي، ووجد شقيقته وابنتها الرضيعة، ثم في اليوم الذي يليه وجدوا كل شقيقاته وبناتهن، أما من لم يجدوه على الرغم من حفر البيت بالكامل وإزالة الركام كله، هو عديل محمود وزوجته وأولاده، ولكن وجدوا كتف أحد ما لم يعرفوه ووضعوه بكفن ودفنوه. ينهي محمود حديثه: "صورة والدتي الباقية في ذهني هي يوم أن رأيتها بدون ملامح، أمي غالية عليا... كنت أناديها باسمها وأدلعها، من يوم رحيلها بطلت أكل الأكلات  من تحت إيديها".