بنفسج

دينا حرز: مُر النجاة من الموت بلا عائلة!

الإثنين 23 ديسمبر

دينا حرز الناجية الوحيدة
دينا حرز الناجية الوحيدة

"اسمي دينا إحسان حرز، عمري 24 عامًا، حكايتي مليئة بالحب والدفء والأمان، بالتفاصيل الجميلة، كُنت مدللة أبي الذي لم يرفض لي طلبًا، ومحبوبة أمي التي كانت تخصني بحبٍ لا يوازيه شيء، وصديقة إخوتي الذين كانوا كل عالمي، وشريكة الروح لزوجي، الذي كان سندي ورفيق دربي، حياتي كانت بسيطة، لكنها مليئة بالسعادة".

هكذا بدأت دينا حديثها مع "بنفسج"، تروي بقلب مثقل بحزن العالم قصتها التي غيرت الحرب ملامحها، ولم تترك لها خيارًا، فقد اختارت أعز ما تملك، بل كل ما تملك دفعة واحدة، وتركتها تلملم شتات روحها وحيدة مع صغيرها أمير.

نزحوا للنجاة فاستشهدوا ونجوت

الإبادة الجماعية عائلة حرز الله.jpg

تتذكر دينا تفاصيل حياتها السابقة، وكأنها تعيشها الآن: "كان صباحي يبدأ دائمًا باتصال من أمي وأبي، يسألان عني وعن أمير، النجم المدلل للعائلة، وعن موعد زيارتي لهم، يوصيانني دومًا بالاعتناء بعائلتي الصغيرة". كانت حياة دينا تدور في فلك العائلة، وبين زيارات الخميس التي أصبحت طقسًا مقدسًا، وبين ضحكاتهم وأحاديثهم التي لا تنتهي، كان لكل فرد في العائلة بصمة خاصة في حياتها.

تصفُ دينا عائلتها ودموع الشوق تنهمر على خديها: "أخي محمود، كبير العائلة، الحنون الذي لا تفارقه الابتسامة، بينما أحمد، رفيقي في كل مكان، دائم الحضور بجانبي. "أما يوسف فلم يكن ينام إلا بعد أن يطمئن عليَّ وعلى أمير، وعبد الله، نكشة العائلة، فكان عصبيًا أحيانًا، لكن قلبه كان طيبًا جدًا، فيما كانت براء ومنار، شقيقتاي القريبتان جدًا مني، براء كانت نصيحتي الدائمة ومنار الصغيرة كانت تُغرق أمير بحنانها".

لم يكن أحد يتخيل أن هذه التفاصيل البسيطة ستصبح ذكريات لا تفارق قلب دينا، وعبئًا يثقل روحها. تتذكر أيضًا كيف كانت تعيش الحب مع زوجها: “كان حنونًا بشكل لا يوصف، يحب أمير كثيرًا، وكان دائمًا يصر على أن أزور عائلتي وأقضي الوقت معهم، وكأن قلبه كان يشعر أن أيامي معهم قصيرة".

ساعدني يا الله

عائلة حرز شهيد.jpg

في أحد الأيام، بعد أوامر الإخلاء التي امتدت لكل مناطق غزة، قررت عائلة دينا أن تلجأ إلى بيتها، شعرت بالطمأنينة لوجودهم بجانبها، وأهدت إخوتها في ذلك اليوم زجاجة عطر يحبونها. تقول بصوت مبحوح: "كانت تلك الزجاجة آخر ما أعطيتهم إياه، وأتذكر كيف أخذوها مني بابتسامة. لم أكن أعلم أنني كنت أودعهم دون أن أدري".

"سمعتُ صوت أخي ينادي من تحت الركام: "ساعدني يا الله!"، كانت تلك اللحظة أصعب ما مررت به، بقيت أسمعه يناجي ربه حتى اختفى صوته، لم أستطع فعل شيء، رحل الجميع دفعة واحدة، أبي، أمي، إخوتي، وزوجي. اثنان وعشرون شهيدًا، وأنا بقيت وحدي مع صغيري".

في مساء ذلك اليوم، الموافق 23 ديسمبر 2023، انتقلت دينا إلى غرفة أخرى مع طفلها أمير، بينما بقي زوجها وعائلتها في الغرفة المجاورة. كان صغيرها متعلقًا بوالده، لكن هذه المرة أصرَّ زوجها أن يبقيه معها، لم تمر دقائق حتى انهار البيت بالكامل، وتحول إلى أنقاض، في تلك اللحظة، انفصل العالم عن دينا.

وتضيف دينا: "سمعتُ صوت أخي ينادي من تحت الركام: "ساعدني يا الله!"، كانت تلك اللحظة أصعب ما مررت به، بقيت أسمعه يناجي ربه حتى اختفى صوته، لم أستطع فعل شيء، رحل الجميع دفعة واحدة، أبي، أمي، إخوتي، وزوجي. اثنان وعشرون شهيدًا، وأنا بقيت وحدي مع صغيري".

وعن شعور النجاة تصف دينا: "طعمه مرٌ جدًا، وحمل ثقيل بدون عائلتي، أصبحت الحياة فراغًا كبيرًا، فقدت صوت أمي وهي تسألني عن أمير، وإلحاح أبي عن كل ما أحتاجه، وأحاديث إخوتي، حتى زوجي الذي كان عالمي الصغير، رحل عني أيضًا".

للنجاة طعم مرّ

عائلة حرز.jpg

وفي خضم هذا الألم، تجد دينا في وجود طفلها الصغير طبطبة على روحها؛ تقول: "هو منقذي، قوتي، عندما أنظر إليه، أدرك أنني يجب أن أكون قوية لأجله، أن أتحمل هذا العبء الثقيل وأصنع له حياة يستحقها، أصبحت أمًا وأبًا في آن واحد". ورغم ثقل الحمل، ألا أن دينا قررت ألا تستسلم، وجدت في عمها، الذي فقد هو الآخر أبناءه، دعمًا وسندًا. “نجلس معًا كثيرًا ونتبادل الهموم، الألم مشترك، والجرح واحد، لكنه أحيانًا يكون أقل حدة عندما نجد من يشاركنا حمله".

بحثت دينا عن طريقة لتشغل وقتها، ووجدت في تعليم الأطفال وتحفيظهم القرآن عزاءً لنفسها. "عندما أجتمع مع الأطفال، أشعر أنني أزرع فيهم بذور الأمل، أخبرهم أن الله لا ينسى أحدًا، وأن التمسك بكتابه هو السبيل للنجاة. رغم صوت القصف الذي يحيط بنا، نستمر في التعلم، كأننا نقاوم الحياة بالقوة".

وعن أكثر ما يمد دينا بالطمأنينة، تقول: "وجدت في قراءة القرآن وذكر الله قوة وسكينة، أجد فيه عزائي ودعمي، وأقول دائمًا: الأمل في وجه الله، وكل شيء منه جميل وأنا راضية به، واللي من ربنا يا محلاه، ولو كان مؤلمًا".

أمير: أمل القادم من العمر

أمير حرز.jpg

رغم كل ما مرت به دينا، لا زالت تحلم بغدٍ أفضل. "كل ما أريده، أن أربي أمير تربية حسنة، أود أن يقر الله عيني برؤيته يكبر ويعيش حياته طبيعية، ويحقق أحلامه، أتمنى من كل قلبي لو ينتهي هذا الكابوس الذي نعيشه، ونعود لنعيش كما كنا".

لم يُقعِد الحزن دينا عن مواساة الآخرين، فتجدها سبّاقة لتقوية كل فاقدٍ لأهله، ولكل زوجةٍ مكلومة، تعزّي ألمهم بألمها، وتكرر دومًا : "الجرح واحد هنا، وكلنا مبتلون، لكننا نساند بعضنا البعض، ونعرف أن الله لا ينسى أحدًا، والحياة تحتاج إلى صبر وقوة كبيرة".

في وجه الألم، وجدت دينا أملًا في صغيرها، وفي وجه الفقد، وجدت عزاءً في كلمات الله، قصتها ليست مجرد حكاية فقد، بل درس عميق عن الصبر، والقوة، والقدرة على التمسك بحبال الأمل حتى في أحلك اللحظات.