نجت من فم الموت المحقق مرات ومرات، نبض قلبها خوفًا لا يهدأ، ارتجفت وكأن الموت ينظر إلى عينيها مباشرة، قاومت لأجل زوجها وأطفالها وحاولت الحفاظ على ثباتها، حتى جاءها الاتصال قائلًا دون مقدمات "عبدالله استشهد". لم تدرك وقتها ما الذي حصل، وكأنها انفصلت عن الواقع، لم يعد إدراكها لها إلا على صراخ أولادها "ما تدفنوا بابا ما تتركوه ادفنوني معه". بكت فاطمة واحترق قلبها المكلوم، على رفيق الستة عشر عامًا، الذي غادر قبل أن يفتح عبوة عطره الذي اشتراها قبل استشهاده بوقت وجيز.
تستضيف منصة بنفسج فاطمة دبابش، زوجة الشهيد عبدالله شنيورة، لتحكي عن زوجها الشهيد، وعن حرب الإبادة الجماعية التي ضربتها في مقتل، وأولادها الذي أصبحت الأم والأب لهم، عن الوعود بينها وبين زوجها ولحظاتهما الأخير.
الأب الشهيد
كانت فاطمة تقطن منطقة الشيخ عجلين قرب النادي البحر، ولبيتها إطلالة على شاطىء البحر، لديها روتين يومي ثابت رفقة زوجها فكانا محبان للسير على الشاطيء، والاستماع لموج البحر من شرفة البيت، ولكنهما فارقا المنزل منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة الجماعية، ونزحا ما يقارب ال18 مرة، عاشا المجاعة مع أولادهم، ونحلت أجسادهم، وعانوا كل أنواع الآلام منذ بدء الحرب.
في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عرفت فاطمة قسوة الفقد، إذ رحل رفيق درب السنوات الطوال، ومن يومها تُعرف نفسها: "أنا زوجة وحبيبة الشهيد البطل عبد الله شنيورة"، في ذلك اليوم وبينما الليل سيلعن حضوره، أتاها اتصال هاتفي لتسمع الجملة الأقسى في حياتها، "فاطمة... عبد الله استشهد"، شعرت حينها بأن جبل أطبق على قلبها، وركضت من البيت لتحظى بلقاء وداعي أخير.
"أنا زوجة وحبيبة الشهيد البطل عبد الله شنيورة"، هكذا تعرف فاطمة نفسها...
تقول لبنفسج: "وصلت مكان دفنه قبل موراة جسده التراب بلحظات، شعرت بجسدي وهو يتخدر ولساني قد تلجم، وبقيت اسأل نفسي هل حقًا هذا اللقاء الأخير، تذكرت وقتها العهد بينا إن سبق أحد منا ونال الشهادة أن يطلب من الله أن يجعلنا بجوار بعضنا البعض، أخبرته بأن لا ينسى الوعد وأن لا يتركنا كثيرًا بدونه وسألت الله أن يلحقنا به قريبًا".
أما عن أولادها عبيدة 15 عامًا وحمزة 14 عامًا ومعاذ 7 أعوام، فقد أصابهم انهيار شديد وهم يودعون والدهم إلى مثواه الأخير، حمزة كان يصرخ بأعلى صوته "ما تدفنوا بابا ما تتركوه ادفنوني معاه"، أما عبيدة: "ليش تركتنا.. لمين تركتنا". وظل يرددها لساعات طوال حتى تعب من شدة صراخه، كل من كان متواجدًا لحظة الدفن وشهد على انهيار الأولاد كانوا عاجزين عن تهدئتهم والسيطرة على انهيارهم العنيف، عز على أبنائه ترك والدهم وحيدًا ومغادرة المكان، فهو كما تصفه فاطمة: "مهون شدة الأيام عليهم، ورفيق كل اللحظات بلا استثناء".
"يبكي ابني الأصغر معاذ يوميًا ويلوم على والده أنه تركه في البيت يوم استشهاده، فلو كان معه لكانا استشهدا سويًا، ويظل يسألني ليش طلع لحاله بدوني؟"
منذ رحيله تبكيه فاطمة وأولاده، يستذكرون كل قول له وفعل، فقد كان حنونًا عليهم لحد لما يوصف كما تخبرنا فاطمة، تضيف: "يبكي ابني الأصغر معاذ يوميًا ويلوم على والده أنه تركه في البيت يوم استشهاده، فلو كان معه لكانا استشهدا سويًا، ويظل يسألني "ليش طلع لحاله بدوني؟". ويعبر عن شوقه للقاء يجمعه بوالده وجدته وجده وعمه وعماته، ويصر على الرحيل مثلهم".
كانت فاطمة تخاف من تعلق أولادها الشديد بوالدهم وخصوصًا أصغرهم معاذ، في الحرب كان يوقظ عبدالله ابنه آخر العنقود لصلاة الفجر ليكون هو الإمام، وكان رفيق أولاده الكبار حمزة وعبيدة، فيروي لهم قصص الشهداء وكراماتهم، يجلسون في الليالي يستذكرون سيرته ومواقفه، تحاول هي أن تُصبرهم وتخبرهم أنه مهما طال المطاف سيمن الله عليهم يومًا بلقاء.
رحيل رفيق الـ 16 عامًا
تخبرنا زوحة الشهيد عبدالله عن مواقف مواجهتهم الموت المحقق مرات عديدة، المرة الأولى كانت في بيتهم الذي قصف سلاح الجو الإسرائيلي مربعه السكني بالكامل وقتلت كل من يقطنون هناك، ولكن فاطمة وعائلتها نجوا وقتها، تقول عن الحدث: "في 17 أكتوبر 2023 اُستهدف منطقتنا بحزام ناري، فبدأ كل ما حولنا يتساقط.
جلسنا في وسط البيت ننطق الشهادتين وننتظر لحظة سقوط حجارة المنزل علينا، ولكن من لطف الله انتهى القصف ونحن أحياء وسمعنا أصوات الجيران من تحت الأنقاض يستغيثون لإخراجهم من تحت الأنقاض، لكن لا مجيب، فلا إسعاف ولا دفاع مدني، في اليوم التالي خرجنا من بيتنا المدمر بشكل جزئي، لنشهد استشهاد سكان كل المربع السكني الذي قُصف ومنهم عائلات خورشيد وساق الله".
وفي 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قررت فاطمة وزوجها الذهاب إلى بيتهما في الشيخ عجلين لإحضار بعض الحاجيات، وبالفعل جهزوا الحقيبة وطلبت من زوجها وهي على عتبة البيت أن يسبقها وهي ستأتي ورائه، وإذ بصاروخ يسقط على زوجها أمام عينيها، لتجد نفسها بلا حجاب وملابسها ممزقة، وقدمها مصابة.
عادت لتحتمي بالمنزل خوفًا من استهداف ثان، مرت عشر دقائق عليها وهي تحاول الاستيعاب، قررت الخروج على الباب فرأت شابين فطلبت المساعدة منهم، ساعدوها والطائرات فوقهم تطلق النيران، سألتهم عن زوجها فأكدوا أنه بخير، ركبت السيارة فلم تجد زوجها، وجدت رجلًا مصاب برأسه ومغطى بالدم، نظرت للاطراف وإذ به يظهر وهو مغطى بسواد قاتم من الصاروخ.
ما تبقى لنا...
رأت فاطمة لطف الله يتجلى في مواقف عدة، حينما نجت من الموت مرات كثيرة، وها هي تنجو مرة أخرى مع عائلتها بتاريخ 9 نوفمبر 2023، وكُتب لهم ميلاد جديد حينما سقط الصاروخ الإسرائيلي في الغرفة التي يجلسون بها واشتعلت النار من حولهم بضرواة، لم تعلم فاطمة من أين أتتها القوة لتخرج من وسط النيران، لتلتفت لتجد ابنها عبيدة ومعاذ يحتضنون بعضهم، أما حمزة لم تجده، ظلت تصرخ لدقائق لتجده يخرج من بين النيران فجأة وهو يقول: "مش شايف"، وقتها أيقنت جدًا فوق إيمانها بأن المعجزات تتحقق.
لم تتوقف المعجزات عن الحدوث في حياة فاطمة وعائلتها، فها هم ينجون مرة جديدة من الموت بعدما سقطت البناية التي كانوا فيها، ما عدا الطابق الذي كانوا فيه، تناثرت الجحارة والغبار عليهم، لتجد وجهها يقطر دمًا، وأولادها يغمرهم الغبار، خرجوا في الليل وهم في حالة رعب، والمطر الغزير على رؤوسهم، حتى وصلوا لبيت أخت زوجها.
لم تتعرض فاطمة وعائلتها للاستهداف المباشر فقط، بل حاصرهم الجيش الإسرائيلي أيضًا، في منطقة أبو إسكندر بحي الشيخ رضوان في منزل أهلها، بقوا 10 أيام دون طعام ولا ماء، وانقطع الاتصال بزوجها النازح آنذاك لوحده في مشفى الشفاء. تقول لبنفسج: " نزح الجميع من مكان تواجدنا وبقي القليل ونحن لم نستطع الخروج وعندما قررنا كان الحصار قد أطبق علينا، لم نكن نضيء أي ضوء، نتيمم للصلاة، ومرض أولادي الثلاثة وارتفعت حرارتهم، اشتد الجو برودة وزاد مرضهم فألبستهم ملابش شقيقاتي البنات".
تكمل: "بعد 10 أيام من انسحاب الاحتلال والآليات من مكان تواجدنا وعادت الاتصالات، أذكر يومها حاولت فقط الوصول إلى زوجي لأطمئنه أننا ما زلنا أحياء، زوجي في أحد الأيام كان يتحدث معنا وقال لنا إنه في وقت حصارنا في منطقة أبو إسكندر أنا وأولادي كان نازحاً هو في مستشفى الشفاء، وهو وقتها لا يعرف أخبارنا كان عندما يسمع أن إسعاف وصل إلى المستشفى يذهب مسرعًا لقسم الاستقبال ليبحث عنا بين المصابين والشهداء، بكيت كثيرًا عندما حدثني بما عاشه".
رجل على مقاس أمنياتي
تعود فاطمة بالذكراة لأول يوم رأت فيها عبدالله، فقالت هذا هو الرجل الذي أريد على مقاس أمنياتي تمامًا.. خلوق تقي نقي، تقول لبنفسج: "حمدت الله على أنه ساق لي شخصًا مثله، حتى مع أولادي كان حنونًا للحد الذي عندما يقصرون بأمر ما لا يعاقبهم، يحدثهم دائمًا بالحكمة هذا خطأ وهذا يجوز وهذا لا يجوز هذا حرامًا وهذا حلال، وكنت عندما أقسو أحيانًا عليهم بالمعاملة، لا يحتمل وسرعان ما يصوب موقفي ويحدثني عن أنه يجب أن يكون تعاملي معهم بشكل دائم بهدوء ودون غضب".
فقدت المنزل الذي شهد على كل ذكرياتهم الجميلة، واختارت كل قطعة فيه بعناية، تضيف عن فقدانها لمنزلها: "فقد بيتنا وبيت أهله أفقدنا كل شيء نملكه، بعد استشهاد أهله لم يتبقى له سوى الملابس التي يرتديها فقط، ذهبنا وقتها للسوق لنشتري له ملابس ليستطيع تبديل ما يلبسه، من وقتها أصبح فقط يشتري حسب حاجته قطعتين فقط، قبل استشهاده بفترة بسيط بدأ الجو يبرد وذهبنا معًا لنشتري ملابس شتوية، اشترى وقتها عطرًا جديدًا وبعض الملابس الأشد ضرورة، ذهب وعطره لم يفتح، وملابسه جديدة كما هي في حقيبته كما وضعها بيديه"."
بعد استشهاد رفيقها أبلغها أحد جيران المكان الذي استُهدف فيه زوجها بسيارته، أنه وُجد في داخلها 52 شيكلًا، فاحتفظت بهم حتى الآن، تردف لبنفسج عن ذكراه الأخيرة: "أذكر أن في يوم ميلادي بتاريخ 10 أكتوبر 2024، فاجأني بزحاجة عطر ثمينة ذات رائحة مميزة، من فرحتي بها استيقظت لأريها لجميع أهل البيت أن حبيبي برغم الحرب أبهج قلبي بهدية ثمينة".
كلما داهمها الحنين له، فتحت تسجيلاته الصوتية، لتسمع صوته ليعنيها على مرارة الأيام، تنظر إلى صوره ومحادثاته، وعندما يغمرها الهم على تحملها لمسؤولية أولادها وحدها، تفكر كثيرًا كيف ستسافر لعلاجهم بالخارج فهم مصاوبون بجميعهم بأمراض مختلفة، عبيدة مريض قلب مزمن، وحمزة مريض كهربا في الدماغ، ومعاذ أنيميا في الدم، فتنظر لصوره من جديد لتمنحهها القوة على الليالي الحالكة.
تختم حديثها: "كيف سأكمل كل هذا وحدي، على من سأسند جسدي المتعب بعد رحلة علاج في المستشفيات لمتابعة صحة أولادي، من سيأخذ قرار سفرهم للعلاج وإلي أين وكيف ومتى، عندما أفكر أشعر بالجنون وأن قلبي سيتفجر من شدة الألم، وسرعان ما استعيد تفكيري بأن الحرب ما زالت وممكن أن نرتاح من كل هذا العناء ونلحق بهم شهداء، وحينها يهدأ قلبي وأدعو الله بأن يريح قلوبنا المتعبة".