إنها لنعمة كبيرة وفضل من الله عظيم أن قضينا شتاء العام الماضي تحت سقف منزلنا وبين جدرانه، نتدثر بأغطيتنا الكافية وننام على أسرتنا الدافئة، ثيابنا كانت ما تزال في حوزتنا نواجه بها برد الشتاء القارس ، ومع ذلك كنا نعاني من البرد. في ذلك الوقت كنت كثيرًا ما أسأل نفسي ترى ما حال من فقد بيته بسبب ترسانة الحرب الاسرائيلية المسعورة علينا.
ما حال من أخرج من منزله عنوة تحت تهديد السلاح وأمام فوهات البنادق ومدافع الدبابات الإسرائيلية. ألف سؤال وسؤال ظل يدور في رأسي حول كل هؤلاء الذين أصبحت الخيام مأوى لهم، أتراها بقيت صامدة أمام رياح الشتاء العاتية وأمطاره الغزيرة، كيف كانت دفئًا لهم من برودة كانون، نحن في منازلنا الخرسانية والصقيع يكبلنا، فكيف بمن أصبحت جدرانه اقشمة بالية وسقفه قطعة جلدية، أتراها غرقت بالمياه وتطايرت أجزاؤها، هل كانت نقمة عليهم وعدوا ٱخر لهم كما هذا الاسرائيلي الحاقد المجنون المهموس بالقتل.
كنت أعلم يقينا أن جميع هؤلاء النازحين يعانون الأمريين، يواجهون ما لا يطاق من موت ونزوح وتشرد وفقد وجوع وعطش وبرد،، ولم أكن أفضل حالًا منهم سوى أنني ما زلت في بيتي، ونزوحي عشرات المرات كان من بيت لآخر، لكنني حرفيًا لم أشعر بمعاناتهم ولم أستوعبها وأتخيلها إلا عندما جاء "الدور علينا" في أواخر آذار/ مارس الماضي.
يومئذ حوصرنا في منزلنا 6 أيام متتالية تحت النار والموت، وأخرجني أعداء الله والإنسانية من بيتي قسرًا دون أن آخذ معي أي شيء. وخرج أهل حيّنا جميعًا تحت تهديد أسلحتهم متوجهين دون إرادة منا إلى جنوب القطاع، بعد أن استشهد من استشهد وأصيب من أصيب. وهنا أصبحت نازحة في خيمة وبدأت رحلة عذاب أخرى وسبقها مواجهة الموت مباشرة. فأيام حصارنا المعدودة تلك كانت أصعب أيام الحرب علينا وربما تعادلها كلها، خلالها هربنا من نافذة الغرفة التي تقع في آخر المنزل الواقع على الطابق الثاني إلى العمارة المجاورة.
لقد نزلنا من النافذة بواسطة سلم خشبي ما ظننته للحظة بأنه صالحًا للاستخدام في شيء كهذا، كيف سننزل عليه، ماذا لو سقط، ما حال الصغار وكبار السن، طائرة الكواد كابتر والاستطلاع التي تحوم فوق رؤوسنا في كل ثانية: ماذا ستفعل بنا، هؤلاء الجنود المتواجدين في البيوت المجاورة ولا نعرف أين مكانهم بالتحديد ماذا لو لاحظونا.
لا مفر، فالقصف المدفعي يشتد بقوة والرصاص العشوائي لا يتوقف، والمبنى الذي نقطنه تقف على بابه الدبابات؛ فهذا الباب يطل على الشارع الرئيس والبيوت المتواجدة في هذا الشارع كانت أوائل البيوت التي بدأ الجيش باقتحامها، لذلك اضطررنا للمخاطرة والهرب للعمارة المجاورة.
كل ما نرجوه أن ينتهي كل هذا العذاب قريبًا، وللأسف أصبحنا ندعو الله بألا تمطر وما كنا لنفعل هذا يومًا
واليوم أعيش هذا الشتاء في خيمة، قريبة من البحر ما يعني أن البرودة أكثر والرياح أقوى وأقوى، لقد كان البحر متنفسًا جميلًا لنا.. ونزهة رائعة طالما أحببتها لكنني اليوم أتمنى لو أنني لست هنا.. يبدو لي أنه كابوس، فلا قوى لنا لنواجه هذا الفصل ونحن في خيمة قرب الشاطئ. كنت حديثة عهد هنا أواخر الشتاء الماضي عندما أمطرت السماء بعد منتصف الليل بنحو ساعتين.
لأول مرة كنت أعيش هذه التجربة، لقد تسربت المياه إلى داخل الخيمة وابتل فراش صغيريّ من الأسفل وبقينا نائمين فوقه، ما ساعدني حينها أن التربة امتصت المياه، لهذا لم أيقظهما. الرياح اقتلعت جزءًا من قماش الخيمة، ظللت أمسك به لأكثر من ساعة إلى أن هدأت قليلًا وتمكنا من إعادة تثبيته، وهذا شيء لا يذكر أمام معاناة أكبر لآخرين، في ذلك الوقت كنت محظوظة لأنني أصبحت أعيش في خيمة في نهاية موسم الأمطار.
ولكن أتعرفون ماذا يعني أن نقضي الشتاء كاملًا ونحن نازحين في خيام.. أن أطفالنا يصابون بالبرد الشديد والأمراض لقلة الثياب والأغطية، ويموتون أيضا، نعم لقد ماتوا من البرد بعد أن تجمدت قلوبهم. أن يغرق الفراش والأغطية والثياب والبشر بمياه الأمطار.. ألا تعرف أعيننا النوم طوال فترة هطول المطر.
ثيابنا التي نرتديها مبتلة، صغارنا يرتجفون، متعبون يعانون وهم ينقلون من رمال البحر لوضعها قرب الخيام لعل التربة الطينية التي تسبب لهم صعوبة في المشي والسقوط أن تخف قليلا، ولكي لا تتسرب مياه الامطار للداخل. أن تمطر، يعني أن نبقى حبيسو الخيام الصغيرة التي لا تتجاوز ٥ أمتار وربما أصغر ، ويضجر الصغار ونحن أيضا.
ألا يستطيع كبير السن ذي الجسد الهزيل الخروج من الخيمة حتى وإن توقف المطر فالارض الطينية لن تساعده على المسير، وأن يكون قضاء حاجتنا أمرًا صعبًا، فأن تصل إلى ما يسمى بالحمام مع صغيرك ليلًا يعني أن نواجه الهواء الشديد والأمطار، وسقف الحمام القماشية سيغرقك أيضا. أسقفنا الجلدية خانت بعضنا وسقطت فوق رؤوسنا، وعلى أجساد أطفالنا وكل مقتنياتنتا، لقد كانت وكأنها خزان مياه سعة ٥٠٠ لتر أفرغت دفعة واحدة علينا فغمرت كل شيء عن بكرة أبيه.
لقد أصبح شغلنا الشاغل كيف نسد تمزقات تلك الأسقف، وألا تغمرنا المياه، فلا طاقة لكثير منا بشراء سقف آخر جديد بسبب سعره المرتفع. هنا نبحث عن الدفء ولا نجده، نعاني من تشققات اليدين وآلامها بسبب برودة المياه، وآلام في العظام والمفاصل لشدة البرد، كل ما نرجوه أن ينتهي كل هذا العذاب قريبًا، وللأسف أصبحنا ندعو الله بألا تمطر وما كنا لنفعل هذا يومًا.