لسنواتٍ طوالٍ ولاختلافٍ في توقيت المدينة المنورة -حيث أقمتُ مع أسرتي- عن توقيت القاهرة المُجدولَةِ على أساسه برامجُ إذاعة القرآن الكريم؛ كانت تفوتني تلاوة الشيخ محمد رفعت الصباحية ذاتُ التشويش المحبب إلى النفس، والذي أضحى لدي اعتقادٌ شخصيٌ يقترب من أن يكون يقينًا أن قد باتت في يد التكنولوچيا اليوم القدرةُ على فصله عن التلاوة.
لكن أحدًا لا يجرؤ على ذلك أو قُل لا يريد، فقد ألِفَته صدورُ الناس كأنما رحُبت بتلاوة الشيخ رفعت حتى وجد التشويشُ لنفسه فيها مكانًا. وقتما تحين تلاوة الشيخ "محمد رفعت" أكون عادةً بصحبة إخوتي في طريقنا إلى المدرسة، والإذاعة في السيارة سعودية، ببرنامجٍ صباحي لا يغيب عن بالي اسمه "اللهم.. بك أصبحنا"...برنامج جميل، هكذا كان يقول أبي بصوت عالٍ وابتسامة ماكرة محاولًا خلق حديثٍ يطرد به بقايا النوم من أعيننا، أو فضّ خلافٍ مما ينشب ويخمد بين الإخوة فجأة لأسبابٍ واهية.
كدتُ أسمع خفقان قلبي بينما أدنو من الراديو لرفع صوته ونفسي تنبؤني أن فضل الشيخ طوبار عليَّ سيمتدُّ إلى يافا، رفعتُ الصوت لأسمع الحزن والحيرة وقد استحالا صوته ينشد أبيات أبي نواس المنتهية بـ" أفرُّ إليكَ منكَ وأين إلَّا.. إليك يفرُّ منكَ المستجير؟!
أما أنا فلا أذكر -صدقًا- إن كنتُ أراه جميلًا أو غير ذلك؛ في مرحلة تعليمي الابتدائية كان مقبولًا على مضض بعدما ننطلق من المنزل وقد استيقظنا على إذاعة القرآن الكريم المصرية ثم شبَّعتنا أمي بصوت نجاح سلام على الإفطار تشدو بصوتٍ متناغمٍ مع زقزقة عصافير الصباح "بالسلامة يا حبيبي.. بالسلامة".
وفي المرحلتين الإعدادية والثانوية طالت رعونة المراهقة هويتي الوطنية فانحزت انحيازًا أعمى لكل ما هو مصري ضد كل ما هو غير ذلك دون منح أي فرصة لنظرة حقيقية. واليوم بشيء من الإنصاف أحاول أن أعزِّزه في نفسي فقد كان البرنامج الإذاعي مفيدًا حقًا، ولكن اختيار برنامج يتحدث فيه شخصان ويستضيفان متحدثًا إضافيًا ويتلقيان اتصالاتٍ ويطرحون فتاوى للنقاش، في مثل هذا التوقيت الذي يحتاج العقل فيه لمقبلات لما هو عليه مقبل كحاجة المعدة قبل الطعام.
وفي مكان صحراويٍّ تندر فيه أصوات العصافير إلى درجةٍ تستدعي بديهيًا مضاعفةَ أصوات العصافير وإخفات أصوات البشر.. كل ذلك كان كفيلًا بألا يُبقيَ من الأمر برمّته في ذاكرتي سوى اسمه.
دعوتكَ يا مفرج كل كربٍ..
ولستَ تردُّ مكروبًا دعاك...
وتُبتُ إليك توبةَ من تراه...
غريقًا في الدموع ولا يراك...
من هنا انفرد بقلبي صوت الشيخ "نصر الدين طوبار" الذي أفيق عليه يوميًا حتى نشأت بيني وبين صوته علاقة صداقة دافئة، كان قد بدأ نسج خيوطها مع قلبي قبل انتقالنا إلى العيش بالمدينة، فبارتفاع صوته الشجيّ قبل أذان المغرب "جلَّ المنادي.. ينادي.. يا عبادي.. أنا ماحي الذنوب والأوزار" يعلن اقتراب انتهاء اللعب مع أبناء عمي.
وعلى الرغم مما يحمل هذا لطفلةٍ من تكديرٍ، وإضافة إلى ذلك أني كنت بعدُ أصغر عمرًا من فهم كلمات الابتهال، إلا أن "النداء" كان يبلغني ويخترق قلبي، فأمضي وقد فرغت راضيةً من اللعب مدندنة مع هذا الرجل الذي يفيض صوته صدقًا كلماتٍ تعجبني ولا أفهمها.
نَمَت هذه العلاقة تدريجيًا بعد سفرنا، فهناك صوت حنون يوقظني كل يومٍ على قوله "موقظًا بالنور أجفان الحياة" ويستمر خلفيةً لتأهبي للمدرسة راسمًا صورة حية أفتقد رؤيتها بقوله "سبحت لله في العشّ الطيور.. تُرسل الأنغام عطرًا في الزهور"، ومكللها بلَومٍ زاد استيعابي له بمرور العمر في سؤاله العاتب "عيشها في رزق من؟!".
وكلما كبرت اكتسب مدُّه الرائق في "الزهور" قدرة أكبر على رسم أول بسمة على وجهي في الصباح، فهو لم ينشد "الزهور" وإنما قربها -بِمدِّه- إلى أنوف المستمعين ليستنشقوها في سحر عجيب.
توطدت الصداقة بمرور الزمن، فكانت قائمة بحثي الأولى على الإنترنت أول ما عرفتُ اليوتيوب وقبل أن أعرف اسم الشيخ طوبار لا تخلو من "سبحت لله في العيش الطيور" بين بحثي المتكرر عن حلقات "توم آند چيري" جديدة. ورغم توطدّ أواصر الصداقة، لا يخطر ببالي أني استقتطعت لسماعه وقتًا خالصًا ولو لمرة واحدة، جرت العادة أن يتسلل صوته إلى قلبي بطريقة أجهلها ليتفاعل مع جزءٍ منه متصلٍ بقنواتي الدمعية وبكهرباء مخي التي تبث قشعريرةً في خلاياي من شعر رأسي وحتى أطراف أناملي.
حين كبرت أكثر ودون أن أُطلع أبي على هذه الصداقة التي تسبب في تكوينها عامدًا أو غير عامد، ولكن كعادة أبي يشعر بي دون حديث، رفع الجرعة بتشغيل إذاعة القرآن الكريم قبل المغرب بعد الاستيقاظ من قيلولته، وأنا عادة في مثل ذاك التوقيت أكون في غرفتي عاكفةً على حلّ مسائل الرياضيات، فيسري صوت الشيخ طوبار في المنزل مرددًا "يا بارئ الكون في عزٍ وتمكين..
وكل شيءٍ جرى بالكافِ والنون" يكررها حتى يصل إلى "يا مَن أحسّ به في كل كائنةٍ.. وقد تعاليتَ عن ظنٍ وتخمين"؛ فيقع التفاعلُ وأفقد زمام التحكم بعيوني إلى حدٍ محرج دفعني مرارًا للتلكؤ عن تلبية طلب أبي مساعدتي في تحضير قهوة المغربية.
منذ عددٍ من الأعوام لا أعرفه أعتزُّ بصوت الشيخ طوبار -رحمه الله- أنيسًا، فقد اجتمعت في ابتهالاته عذوبة الصوت بالكلمات النافذة كالسهام -على رقتها- وبصدق أدائه لها في غير تساهلٍ يُفقدها معناها أو مبالغة تُعسِّر نفاذيتَها إلى الروح، فأنساب إلى أعماق القلب الذي أختلج لصوته قبل أن تعكر صفوه الذنوب أو يحتاج إلى توبة.
وإلى اليوم أجهز قهوتي على عجل لأحتسيها وهو ينشد صباحًا لوحته البديعة، صحيحٌ أنني أوقظ ابنتي يافا إلى المدرسة وصوت الشيخ محمد رفعت يصدح بالمنزل، ولكن لا أنكر سعادةً ملأت قلبي حين لاحظتها جالسةً في سكون منذ فترة قصيرة بجوار الراديو خفيض الصوت، وما أن اقتربت منها حتى قالت بابتسامة هادئة "صوته جميل اوي" وانطلقت لاهية.
كدتُ أسمع خفقان قلبي بينما أدنو من الراديو لرفع صوته ونفسي تنبؤني أن فضل الشيخ طوبار عليَّ سيمتدُّ إلى يافا، رفعتُ الصوت لأسمع الحزن والحيرة وقد استحالا صوته ينشد أبيات أبي نواس المنتهية بـ" أفرُّ إليكَ منكَ وأين إلَّا.. إليك يفرُّ منكَ المستجير؟!".
كل ذلك غير دَين له عليّ يُغطي حياتي كلها، أوشك أن أُجزم بأن لحظةً فُتحت فيها لدعائي أبواب السماء على مصاريعها، حتى أنِّي منذ ذلك الحين أُرجئ كل خيرٍ أعيشه أو لايزال في أحمال الدهر لها، تلك اللحظة التي شقَّ فيها صوت الشيخ نصر الدين سمعي وقلبي وكل جوارحي وأنا أسير هائمةً في ساعة غروب وعيناي توشكان على الانفجار من ضغط الدمع فيهما؛ حتى انهمر بدعوةٍ رقيقةٍ منه...
قائلًا:
دعوتكَ يا مفرج كل كربٍ..
ولستَ تردُّ مكروبًا دعاك
وتُبتُ إليك توبةَ من تراه..
غريقًا في الدموع ولا يراك.