بنفسج

فيروز عرفة: روائح الأسر العالقة في الذاكرة

السبت 08 يناير

كانت رائحة الدماء تملأ الكيس الأسود عندما غطى به جندي الاحتلال الصهيوني رأس فيروز عرفة، وهي تتعرض للشبح في سجونهم؛ فتاة عشرينية، ولدت في عام النكبة، فتوقف الزمن آنذاك، هناك. منزل رباح عرفة، حي الدرج، غزّة، فلسطين. ليلة الرابع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر عام 1970، الساعة الواحدة صباحًا، منتصف الليل، بدأت الحكاية من هذه التفاصيل.

كانت عائلة عرفة تنام في بيتها، ولا تعرف أن سلالم الاحتلال صعدت أعلاه، وأحاطته من كل الجهات، مصوبين قناصاتهم نحوه، وكأن المنزل سيخرج بندقيته ويبدأ برشق الرصاص عليهم. طرق شديد على الباب، استيقظ الضوء في البيت بعد نوم قصير، فزعت الأبواب الأخرى ليخرج الجميع حتى واجهة الباب الأكبر، ثم فتح الأب للطارق. أن يستيقظ الفلسطيني على حملة تفتيش من الاحتلال صار أمرًا طبيعيًا، كانت غزّة آنذاك مليئة بالحملات المفاجئة وما ستحمله منها.

أخذ الاحتلال يبعثر كل أشياء العائلة التي رتبتها الأم بعناية؛ صادر كتب القضية الفلسطينية والشعر، بعد تفتيشها، لكنّ كتابًا واحدًا لم يكن فارغًا، ظهر به منشور موقع باسم الجبهة الشعبية، ابتسم قائد الحملة بخبث، هكذا سيخرج منتصرًا بجنوده، ثم طلب: "فيروز عرفة" 22 سنة.

| حين غطوا وجهها

i12.png
 

لم تكن عائلة فيروز تعرف شيئًا عن عملها ضمن منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رفض والدها، بداية، الاعتراف للاحتلال أن له ابنة بهذا الاسم، كان لفيروز اسم آخر يعرفها الجميع به "لولو"، فطلب الجندي "الإسرائيلي" هذا الاسم أيضًا، حتى وقفت أمامه، شيء من الشك بدأ يراود الاحتلال، لأنهم اعتقدوا أن الفتاة التي سيذهبون للقبض عليها، طويلة، عريضة، بمواصفات معينة، لكن بما أنها أمامهم الآن، إذن ليبدؤوا همجيتهم دون النظر إلى أي شيء آخر.

وبعد رفضها الخروج معهم بالبيجامة، أجبروا على مسايرتها حتى خرجت من المنزل، كان أول شيء فعلوه قبل صعودها إلى المركبة العسكرية أن غطوا وجهها حتى لا تعرف أين ستذهب، وهو نوع من التعذيب؛ ألا يعرف الإنسان أين يذهب وما مصيره يشعره بالخوف أكثر.

وجدت عرفة نفسها في سجن غزّة المركزي، فتاة بعمر العشرين، ماذا ستفعل بين أكوام الملابس المتسخة التي ستلبس إحداها لاحقًا، ومجندات وجنود ومحققين قذرين؟ بدأ التحقيق بحضور ضابط المخابرات "أبو ســالم"، مســؤول الحملة التي اعتقلتها، في الطريق إلى هناك، كان شــباب معلقين على الحائط، مكبلي الأيــدي، ورؤوســهم مغطاة، هنــاك عدد منهم يصرخ من التعذيب والضرب، كأنهم يخبروها عن مصيرها إن لم تعترف.

لم تعترف عن أي تهمة من التهم الموجهة لها، فبدأ التعذيب النفسي، من هدم المنزل وإحضار الأهل، التهديد بتمزيق الملابس والألفاظ البذيئة، شتم الأهل والذات الإلهية، كانوا يرددون أثناء التحقيق: "خمس دول عربية لم تستطع هزيمتنا.. أنتم بدكم تهزمونا؟" 

كان في غرفة التحقيق أربعة محققين جالســين على الطاولة، عرفوا عن أنفسهم "أبو سالم وأبو موسى وأبو حديد وأبو فريد"، وكلها أسماء مستعارة، ثم شرعوا بتوجيه الأسئلة حول تهمة الانتماء للجبهة الشعبية، وتوزيع منشورات وأسئلة أخرى حول المقاومة. لم تعترف عن أي منها، فبدأ التعذيب النفسي، من هدم المنزل وإحضار الأهل، التهديد بتمزيق الملابس والألفاظ البذيئة، شتم الأهل والذات الإلهية، كانوا يرددون أثناء التحقيق: "خمس دول عربية لم تستطع هزيمتنا.. أنتم بدكم تهزمونا؟".

ثم تركوها لخمسة أيام في الزنزانة من دون أن يكلمها أحد، لكن الاحتلال لم يتركها تأخذ راحتها بعد جملة الأسئلة والتهديد، بل عمل استخدم أسلوب تعذيب نفسي ثم جسدي. بعد خمسة أيام، بدأ التعذيب بشد الشــعر وخلعه بقوة، ولفه على معصم يدها، لم يكتف الأمر هنا، بل هددها المحققون باقتلاع أظافرها؛ أحضروا عدّة أدوات حادة كالزرادية والمكبس والسكاكين والمنشطر [أداة حادة].

| تحت وطأة التعذيب

فيروز2.jpg
الأسيرة المحررة فيروز عرفة

تعرضت فيروز للشبح؛ الوقوف على الحائط، مرتدية على رأسها كيسًا أسودًا رائحــته عفنة، ورائحــة الدم تفوح منه؛ كان قد وُضع قبلًا لمعتقلين تعرضوا للضرب على رؤوسهم وسالت به الدماء. لم تنته أساليب التعذيب بعد، كان وضعها تحت الماء الساخن والبارد طريقة مؤذية في التعذيب، فهناك دش ماء في المردوان يتحكمون في فتحه، تستذكر عرفة، أن أحد المحققين أمسكها بقوة من شعرها وكتفها ودفعها بقوة تحت الماء البارد جدًا، في فصل الشتاء، ثم بعد ذلك أجلسوها على كرسي أمام مروحة باردة، كرروا معها هذه الفعلة، مما أدى إلى إصابتها بالتهابات حادة في الصدر والقصبات الهوائية، كما حدثت التهابات في منطقة الثدي وتحولت إلى ســرطان، الأمر الذي أدى إلى اســتئصال الثدي بعد الخروج من الســجن".

ولأنك تتحدث عن احتلال، فكل شيء تستطيع التفكير به متاح في التعذيب هناك، في إحدى المرات، أدخلوها لزنزانة بها أحد الشــباب الأســرى الفلســطينيين، كان يجلس على الأرض، وعندما رأته شــعرت بالخوف، لكنه طمأنها بإشارة من يده، وفي إثر ذلك زال خوفها. ومن أصعب أنواع التعذيب الجســدي رأته عرفة، أن أحد المحققين كان جالسًا على الكرسي وهي مقيدة من الخلف بيديها، فقام بواسطة حذائه العسكري، بالدعــس على معدتها، مما جعلها تعاني حتى اليوم من آلام المعدة، كما أنّ أحد المحققين صفعها على وجهها فأثّر ذلك على عينها التي سببت لها ضعفًا في ما بعد.

كان كل هذا التعذيب في 45 يومًــا، قبل أن يتم إصدار حكم بحقها بالسجن لمدّة عام، ونقلها إلى قسم الأسيرات، لكنّ التعذيب لم ينتهِ عند هذا الحد، فقبل انتهاء حكمها بأسبوع نُقلت إلى الزنزانة. تقول عرفة بعد تذكر كل هذه الأحداث التي لا تنسى أيًا منها قط، إن الهمجية واللاإنسانية التي عاملها بها الاحتلال تستمر حتى الآن، كأن تبقى رائحة الكيس الأسود والملابس القذرة عالقة حتى اليوم في الذاكرة كأنها نحتت بقوة لن يستطيع شيء مسحها.

| اعترافات مناضلة

6.png
الأسيرة المحررة فيروز عرفة في شبابها

لم تستطع فيروز الاعتراف آنذاك، لكنها تقر الآن بعد كل السنوات، أنها كانت تستيقظ صباحًا تحمل ورقًا غير مطبوع، لم يكن الاحتلال يسمح باستخدام آلات الطباعة إلا بتصريح، لذلك تكتب المنشورات يدويًا وتلصقها بعجين النشا، تتركه (العجين) لينًا حتى يسهل التصاق الورق بالحائط.

كما تعترف أيضًا، أنه في إحدى مرات أسرها، اعتُقلت امرأة لتعترف عن ابنها، فعاهدت المرأة ان تسلم السلاح للمعنيين. بعد خروجهن من السجن، ذهبت فيروز مع رفيقيها، وأخذت سلة مغطاة بالقش، لكن القش لا يكفي ليتغاضى الاحتلال عن التفتيش، فاشتروا موزًا ووضعوه على وجه السلة. ركبوا السيارة على الطريق، وبالصدفة، أوقفهم كمين في شارع صلاح الدين، خاف رفاقها من التفتيش، فطلبوا أخذ السلة حتى لا تتحمل النتيجة، لكنها رفضت، عندما سألها الجندي عن محتوياتها (السلة)، ردّت: "موز، تأكل؟" ثم نجوا.

لم يتركها الاحتلال تحتفل بانتصارها، فاعتقلها مرة أخرى في آذار، ليتكرر التعذيب لثلاثة شهور أخرى. وبعد إطلاق سراحها سافرت إلى المملكة العربية المتحدة السعودية لترى أخاها، وأثناء عودتها عبر جســر الأردن، اعتقلتها قــوات الاحتلال لمدة ثلاثة شــهور أيضًا، ليعود التعذيب مرّة أخرى.

لم يكن المجتمع بداية يتقبل فكرة أن تُسجن الفتاة لدى الاحتلال، عندما خرجت من الأسر كان سؤاله الأول؛ "بالله ما عملوا معك شي". "معقول هدول خلوهن ما عملوا فيهن شي".

أن يسافر الفلسطيني تهمة، بالضبط تمامًا كأن يتنفس ويشرب وينام، كل هذه تهم جاهزة ليأخذها الاحتلال ويبدأ تعذيبها مرة أخرى، ومثل كل مرّة أطلق سراحها هذه المرّة أيضًا، لكنها اتجهت لاستكمال دراستها، حتى حصلت على درجة البكالوريوس تخصص تربية تاريخ من الجامعة الإسلامية، وتزوجت الأسير المحرر سعيد ناجي.

لم يكن المجتمع بداية يتقبل فكرة أن تُسجن الفتاة لدى الاحتلال، عندما خرجت من الأسر كان سؤاله الأول؛ "بالله ما عملوا معك شي". "معقول هدول خلوهن ما عملوا فيهن شي".

تقول فيروز: "حتى لو أقسمنا لن يصدقنا أحد"، أجبر كلام المجتمع أغلب الأسيرات على زواج لم يرغبن به، حتى يتخلصن من ألسنتهم، لكنها تزوجت من الأسير المحرر سعيد ناجي من دون الالتفات إلى خرافات المجتمع، أمّا عن الأبناء، كان للاحتلال دور كبير في جعلها تدفع ضريبة قاسية جدًا وهي الحرمان من الأبناء، ومع ذلك أخذت فيروز من أبناء الوطن أبناء؛ فساهمت لتكون عضو مجلس إدارة في جمعية الدراسات النسوية التنموية الفلسطينية، تحتضن الأسيرات والمعنفات، كما أنها عضو مجلس إدارة في جمعية الهلال الأحمر، وتشارك في عقد فعاليات تتحدث عن انتهاكات الاحتلال في الأسر. ومع ذلك، تتمنى عرفة الآن أن تعود لعام 1968، ما بعد الهزيمة، لليوم الذي بدأت العمل من أجل فلسطين، حتى تعمل أكثر.