بنفسج

رمضان فلسطين: فوانيس تضيء عتمة الاحتلال

الجمعة 25 مارس

الثلاثون يومًا من كل سنة، ينتظرها الصغير قبل الكبير بشوقٍ كل عام؛ شهر الخيرات والمحبة والسلام، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، شهر رمضان. تبدأ طقوس الشهر في غزة والضفة الغربية ببشارة بثبوت رؤية الهلال، فلا تلبث أن تتوالى التهاني والمباركات؛ فيهنئ أفراد العائلة الواحدة بعضهم بعضًا، ومن ثم يبدأ وابلٌ من الاتصالات الهاتفية والرسائل الإلكترونية عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ مهنئة ومباركة بحلول الشهر الفضيل.

وما هي إلا ساعات قليلة، ويتهافت المصلّون نحو المساجد - قبل عام الوباء- ليقيموا أُولى سُنن الشهر ألا وهي صلاة التراويح، وبينما تُتلى أُولى آيات سورة البقرة من القرآن الكريم، يكون الأطفال قد بدؤوا يجوبون الشوارع بفوانيسهم المضيئة والمنشدة تارة معزّزين ضوء هلال الشهر بنجوم لم تظهر طيلة العام إلا في هذه الليالي المباركة، كما تتزيّن الشوارع والطرقات والشرفات بأسلاك الزينة المضيئة على شكل هلال رمضان ونجوم وكلمات مهنئة بالشهر لتضفي طابعًا خاصًا على الأماكن بحلول هذا الشهر الفضيل.

| مسحراتي البلاد

مسحراتي غزة.jpg
المسحراتي في إحدى مدن فلسطين

وما إن تنام الجفون هانئة بأجواء السكينة والرحمة حتى توقظها أصوات شجيّة من التهليل والتكبير والتسبيح لله جلّ وعلا، تبدأ ب "يا نايم وحّد الدايم"، يرافقها دق الطبل المتعارف عليه من " مسحرّاتي" رمضان، وتنتهي بالصلاة والسلام على سيد الخلق وشفيعهم سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

وللمسحّراتي عادةً زيّ خاص يميزه، يجوب به الحارات كالبلدة القديمة في كل من القدس ونابلس والخليل ورام الله وفي باقي مدن الضفة إضافة لغزة، حيث في كل منطقة يتطوّع أحد أبنائها ليؤدي هذا الدور حتى يغدو صوته مألوفا لأهالي المنطقة. أما بالنسبة لوجبة السحور، فيُنصح أن تكون خفيفة مشبعة ومقاومة للعطش لتخفف من آثار النهار على الصائم، مثل اللبن والأجبان والتمر والعسل، أما في أيام رمضان الحارة يكون الجبن والبطيخ هو رفيق السحور الدائم في معظم الليالي للفلسطينيين.

سوق غزة.jpeg
سوق شعبي في غزة

تتميز أيام رمضان بسكون فترات الصباح، حيث تخف حركة السير وعادة ما تتأخر المحال التجارية في فتح أبوابها الى ما بعد الظهيرة، فتنشط الحركة مع موعد عودة الموظفين ومع اقتراب ساعات المساء، يتسابقون إلى الأسواق لقضاء حوائجهم من شراب وطعام، حيث تتزين أسواق رمضان بجميع الأصناف الشهية من خضار وفواكه طازجة وحلويات وعصائر طبيعية تجذب الصائم رائحتها الزكيّة المنعشة.

| طقوس رمضانية

حلوى رمضان.jpg
حلوى رمضان في مدينة نابلس

فها هي "قطايف رمضان" تفوز باللقب الأول من بين الأصناف الجاذبة للصائمين، وها هو "عصير الخروب" يتربّع على عرش العصير الأهم على مائدة الإفطار، بالإضافة لغيره من العصائر الطبيعية كعرق السوس والكركديه والتمر الهندي، حيث للأخير دوره في طقوس الشهر فنجد ساقي شراب التمر الهندي يجوب بلباسه المميز شوارع وأسواق الضفة بعد الإفطار ليسقي المصلين بعد أدائهم لصلاة المغرب أو بعد صلاة التراويح.

وما إن تبدأ الشمس بالغروب، حتى تعجّ مطابخ البيوت بسكّانها، فهاي الأم تسرع لتضع آخر لمساتها حتى تكتمل وجبة الإفطار، تتسابق مع الزمن لتنجز مهمتها بمساعدة عائلتها قبل أن يُضرب "مدفع رمضان" معلنًا انتهاء يوم الصيام وحلول ساعة الإفطار. تجتمع العائلات حول موائد الرحمن، داعيةً المولى عز وجل أن يتقبّل صيامهم ويغفر لهم ويرزقهم جناته، ويبارك لهم في هذا الشهر، ويجعلهم من عتقائه.

سوق غزة2.jpeg
استعداد لرمضان في فلسطين

وتعمر الموائد عادة بالطبق الرئيسي حيث تشتهر مناطق الضفة الغربية بأكلات "المنسف والمسخن الفلسطيني والمقلوبة"، وغيرها من أكلات بلاد الشام المميزة، وبأطباق المقبلات والشوربة والمعجنات، ولا تكاد تخلو مائدة الإفطار في رمضان من التمر الذي يبدأ به الصائم إفطاره سنة عن نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، بالإضافة للعصائر الطبيعية، كما ذكرنا آنفًا.

أما بعد الإفطار، فتبدأ السهرات الرمضانية العامرة باجتماع الأحبة والأقارب، ليتسامروا ويتناولوا ما لذّ وطاب من الحلويات ك "الكُنافة"، و"القطايف"، و"البرازق"، وغيرها من الحلويات الشهيرة؛ فالصائم بحاجة للسكريات ليمدّ جسمه بالطاقة التي فقدها بامتناعه عن الطعام طوال ساعات الصيام. كما تجتمع العائلات في ليالي رمضان لتتابع برامج التلفاز التي عادة ما تكون كوميدية ساخرة من الظروف العامة أو دينية تتحدث عن فضائل الشهر، أو دراما عربية بقصص مختلفة تكسر ساعات الليل الطويلة.

| تغير الطقوس إثر "كورونا"

هذا ما كان عليه الحال قبل عامين – أي قبل عام الوباء – إلا أن الظروف الأخيرة قد حتّمت بعض التغييرات على طقوس رمضان السابقة، فقلّت الجمعات والسهرات الرمضانية التي يكلّلها لقاء الأحبة من أقارب وأصدقاء، حيث مُنعت التجمّعات، وخضعت الأسواق والحركة التجارية لبعض القيود التي عرقلت فتح أبوابها للمواطنين في ساعات معينة خلال اليوم، كما أنّ المساجد كانت في عام الوباء مغلقة أمام المصلّين في أوقات الصلاة مما أثّر سلبًا في نفسيّة الصائم، حيث أنه قد حُرم من لذّة صلاة التراويح في المساجد جماعة لفترة ثم أصبح يُسمح الصلاة في المساجد مع الالتزام بالتباعد واجراءات السلامة، خلال فترة إغلاق المساجد تأقلم  الفلسطيني كعادته سريعًا مع الظروف الجديدة، فأصبح المواطنون يصلّونها جماعة في بيوتهم، فيؤم ربّ البيت بعائلته مقيمًا للصلاة ليعوضوا بعضًا مما حرموا منه من حلاوة التراويح في ليالي رمضان المباركة.

وتعويضًا لما كان عليه الحال من نُزُهات ونشاطات في شوارع المدن خلال ليالي رمضان، أصبح الأهالي يبالغون في زينة منازلهم وزرع أجواء رمضان بين جدران المنزل، في محاولة منهم للتقليل من وطأة منع التجول الذي يبدأ يوميًا من بعد الساعة السابعة مساءً، فتتنافس العائلات لإحياء أجواء الشهر ببناء الخيم الرمضانية البيتية، وشراء فوانيس رمضان، والكتب الدينية، وإقامة المسابقات، والألعاب الرمضانية لأطفالها.

ومما لا شكّ فيه بأنّ للشهر طقوسه الدينية الجميلة الثابتة التي لا اختلاف عليها، من قراءة القرآن، فيتسابق الصائمون فيما بينهم بختم القرآن الكريم، ومن قيام الليل وصلاة التراويح. هو شهرٌ مميز بكل ما فيه، فما إن تغرب شمس شعبان حتى تدخل نسمات الشهر العطرة لتجعلنا نعيش شهرًا كاملا في روحانيّات وسلام كنّا قد افتقدناه لمدة عام كامل من الانشغال بظروف الحياة اليومية.

هو شهرٌ ينقّي أرواحنا لنعيد شحنها بطاقات إيجابية ونتخلص من كل ما هو سلبي، ونعيد حساباتنا الدينية والدنيوية كفرصة أخرى لنبدأ من جديد. أعاده الله علينا وعليكم بالخير والحب والصحة وقد أزاح عنّا غيمة الوباء، وأعاده على فلسطيننا بالحرية والسلام.