بنفسج

طقوس تصنع معنى: رمضاني الذي أفتقد

السبت 26 مارس

لرمضان رائحة مميزة! ليس ذلك على سبيل المجاز، بل هي رائحة حقيقية، كأن عطرًا ما قد امتزج بهواء هذه الفترة من العام! تبدأ هذه الرائحة في التسلل إليّ أنفي مع بداية توارد الطقوس الرمضانية علينا. ففي مصرنا؛ لكل حدث طقس يميزه ويضفي عليه طابعًا خاصًا! وفي رمضان تحديدًا تتزاحم الطقوس، تسير في الشارع فتجد الاستعدادات على أشدها؛ الزينة، الفوانيس، الأنوار. تدخل محلًا فتجد الياميش مصحوبًا بأنغام "رمضان جانا" التي تجعل القلب يدق استبشارًا بحلول الشهر الكريم. في البيت ستجد والدتك تتحدث عن "تنضيفة رمضان" و"عزومة العيلة"، حتى الفيس بوك ستجد نساءه قد انتفضن وتأهبن للاستعدادت الرمضانية.

ثم يبدأ رمضان فتبدأ معه طقوس أخرى؛ طقوس للسحور، طقوس للحلوى، وطقوس للإفطار، أصوات المساجد، العبادات، والتراويح. ولكل طقس تفاصيله وروحه ومشاعره التي يسكبها بداخلك، لدرجة أنك أحيانَا يختلط عليك الأمر فتتسائل؛ هل الطقوس هي ما تعطي للأشياء معنى؟ أم نحن من نخلق معنًا للطقوس؟! بالنسبة لي، من أهم الطقوس التي اعتدت عليها في رمضان هي طقوس "مسجد النساء"، لمسجد النساء في رمضان تحديدًا تفاصيل خاصة لن تخطر أبدًا على بال أي رجل من الرجال!

بالنسبة لي سطح المسجد هو المكان الذي أتوجه إليه مباشرة منذ أن بدأ رمضان في التزامن مع الصيف، ربما كان في البداية هربًا من الزحام والحر وبحثًا عن النسائم الرطبة، لكنه منحني ما هو أكثر من ذلك. كشف لي السماء بجمالها ورحابتها. أتمدد وأطيل النظر إلى الكون الفسيح دون أن تحد رؤيتي عمران!

أنظر من بين فتحات الخشب الصغيرة إلى مصلى الرجال، فأجد هدوءًا يحسدون عليه، كلٌ يجلس في شأنه لا يأبه لشئ ولا لأحد. لكن النساء.. وآه من النساء!! يتخلل الصلاة والعبادات نموذج مصغر من الحياة بما تحمله من تفاصيل. جلسات سمر ووناسة، موجود! حلقات ذكر، كثيرة هي! أطفال يلعبون ويركضون، نعم! شجارات حول الأطفال الذي يلعبون ويركضون، تحدث كل رمضان! ابتهالات ودعاء جماعي، نسأل الله القبول! طعام وشراب، صنوف منها! أُم تنتهز الفرصة لتجد عروسًا لابنها اللقطة، بالطبع!

بالنسبة لي سطح المسجد هو المكان الذي أتوجه إليه مباشرة منذ أن بدأ رمضان في التزامن مع الصيف، ربما كان في البداية هربًا من الزحام والحر وبحثًا عن النسائم الرطبة، لكنه منحني ما هو أكثر من ذلك. كشف لي السماء بجمالها ورحابتها. أتمدد وأطيل النظر إلى الكون الفسيح دون أن تحد رؤيتي عمران! أنظر لدواخلي، باحثة عن نفسي التي أضيعها أحيانًا في عجلة الدنيا. وأتأمل الكون الفسيح، وكوني جزءًا ضئيلًا أمام هذا الكل العظيم. أحدث الله عن حيرتي، جنوني، خوفي، آلامي، وآمالي. ولا يقطع ذلك سوى صوت الأذان الذي يباغتك من المأذنة القريبة، بصوت ينفذ للقلب بأن "الله أكبر" من كل هذا وأقدر عليه.

منحني السطح أيضًا أكثر الطقوس إثارة في مسجد النساء. تجدها في العشر الأواخر تحديدًا مع اقتراب شروق الشمس! فقرة المرصد، نعم! المرصد الفلكي الذي يبدأ في وقت الشروق يوميًا على سطح المسجد لرصد الشمس وأحوالها! تجد هناك نقاشات حارة حول لون الشمس وهيئتها وشعاعها، حتى الوقت الذي تستغرقه في الشروق. وتتعالى الأصوات:

"-بصي سبحان الله مفيهاش شعاع خالص!

=يا طنط انا عيني هتتعمي

-بس النهاردة كان فيه كلاب كتيير

=وناس كانت بتتخانق

- لا بس الشمس حلوة.. قمر!"

شئ في عقلي دائمًا كان يستنكر هذا، لم أكن أعير ذلك كله أي اهتمام، حتى جاء اليوم المشهود الذي شاهدت فيه بالصدفة شروقًا للشمس لا يشبه أي شروق رأيته في حياتي! الشمس بيضاء، تمامًا كالقمر! تستطيع أن تحدق فيها دون ان يرف لك جفن! اضطرب قلبي وتداخلت مشاعري حد البكاء، كان ذلك بالنسبة لي غريبًا ومثيرًا ومعجزًا! وفي هذه اللحظة تحديدًا سرت العدوى إليّ! وأصبحت من هؤلاء النسوة اللواتي يطالعن الشمس يوميًا بكل شغف وترقب.

أقف في المرصد أناقش شكل الشمس وشعاعها ولونها، أتذمر لأن هذه المباني تحجب عنا رؤيتها فور شروقها، عكس المسجد الآخر المحاط بمساحات خالية. أسأل الصديقات عن رأيهن وأركض إلى مجلس أمي لأخبرها بما رأيت! في وسط هذا، ألمح فتاة مارة تنظر إلينا في استنكار متعجبة مما نفعل. "اممم اعرف هذه النظرة جيدًا. لا بأس يومًا ما تكبر، وتنضم إلينا! وفي قولٍ آخر من ذاق عرف!

اشتقت لذلك كله في رمضانات الكورونا، للسماء المفتوحة، للمأذنة، لليل الهادئ، للمرصد، لصديقات المسجد اللواتي لا أراهن إلا في هذه الأيام، وصديقات أمي اللواتي يستقبلنني بحفاوة. وللطقس الذي يهيئ لنا السكون والتجرد من الدنيا ولو لبضع ليال!يعيدني هذا لسؤالي الأول، هل الطقوس هي ما تعطي للأشياء معنى؟ أم نحن من نخلق معنًا للطقوس؟

الطقوس نصنعها وتصنعنا. نمنحها المعنى أولًا، ثم تعود هي لتمنحنا إياه مرات ومرات، وفي الأزمات آمنت أن علينا خلق طقوسًا جديدة تلائم الحال، ونحمد الله أن وصلهِ غير مشروط بمكان ولا زمان. نعم سنَظل نحِنُ الي المعتاد، إلى القديم، إلى الغائب المفقود. لكن نبقى نحن من نخلق الطقوس، والذكريات، والحياة!