بنفسج

ميلاد للحرية: أنهار الديك تبلغ بجنينها بر الأمان

الأحد 05 سبتمبر

"شو أعمل إذا ولدت بعيد عنكم؟". وَجع التساؤل هُنا لا يقّل صعوبةً عن ألم المخاض وأنت مُحاط بعائلتك على سرير المستشفى، قريب من شعورهم نحوك، وترقبهم الشديد لـ "اللحظة" التي تسمع فيها أصواتهم تتقافز فرحًا "وأخيرًا شرّف البيبي". تساؤلٌ سبقه تخيّلات ومخاوف قاسيّة، عاشتها "أنهار" ليالٍ طويلة داخل عتمة الزنزانة، افترضت فيها أن تَلد، بظروفٍ تُشبه أجواء المحاكمة العسكرية، مُكبلة اليدين والقدمين، وبدلًا من أن يحظى الجنين بَفرحة عائلته سيُعزل وأمه، يغمرهما وجع لا يسمع أنينه أحد "شو أعمل إذا تكلبشت وأنا أولد؟ إنتو عارفين شو الولادة القيصرية بره، كيف بالسجن؟ وأنا مكلبشة لحالي!".

| الجنين "علاء"

أنهار ورساللتها.jpeg
رسالة أنهار وهي في الأسر 

وعلى أملٍ ضئيل ختمت في رسالةٍ مُهربة من أسوار سجن الدامون إلى عائلتها: "طالبوا كل حرٍ وشريف يغار على عرضه، أن يتحرك ولو بكلمة". والسلام! تحرّك العالم أخيرًا، وظلّ يُكافح من أجل حرية هذه الأم الحامل وحقها في ولادةٍ آمنة بعيدًا عن أغلالٍ الزنزانة، وحقد السجّان. الخميس الماضي الثاني من أيلول/ سبتمبر الجاري، تحررت الأسيرة الفلسطينية أنهار الديك (26 عامًا)، الحامل في شهرها الأخير، بعد اعتقال دام نحو 5 أشهر، في سجن الدامون، في الثامن من آذار/مارس الفائت، وكانت حاملًا في الشهر الثالث، بتهمة محاولتها تنفيذ محاول طعن، وذلك بكفالة مالية مدفوعة قيمتها 40 ألف شيقلًا مع إقامة جبرية بمنزل عائلتها في قرية كفر نعمة غرب مدينة رام الله.

"علاء" جنين "أنهار" الذي لم يرَ النور بعد، تحرر هو الآخر بعدما كان شاهدًا على جُرم الاحتلال الإسرائيلي ومحققيه، إذن كان له نُصيب من هذه فَرحة (ولو كان مخفيًا) أمه تُؤكد ذلك بصوتٍ يعلو فيه شعور الامتنان لكل من تحدث عن قصتّها مساهمًا بحريتهما. تقول "أنهار" في حديثٍ مع "بنفسج" لقد عشت ظروفًا قاسية وصعبة داخل السجن، فطوال المدة السابقة، لم تفارقني تخيلات الولادة وأنا مكلبشة بعيدة عن أهلي، فضلًا عن انعدام الرعاية الصحية اللازمة للأم وجنينها".

رغم ما كنت تُعانيه، ظل بصيص صغير يُشرق عليها من وسط العتمة يُخبرها أن ثمة لقاءٍ قريب يُداوي وجع الشوق لجوليا (ابنتها الصغيرة)، عن ذلك تُحدثنا: "كان قلبي متلهفًا لها جدًّا، يُؤلمني البعد الذي هو فوق إرادتنا.. وأول مَن سألت عنه لحظة التحرر هي صغيرتي، وهرعت إليها لأعيد بالعناق طمأنينتها المفقودة".

| الحلم أصبح واقعًا!

الاسيرة انهار.jpg
كاركتير عن أنهار وجنينها

إن قهر الاحتلال الإسرائيلي لِـ "أنهار" أكثر من مرة في الضغط على بطنها لإسقاط جنينها، اخترق كافة القوانين الدولية والإنسانية، لكنَّ الله سخّر الأمل بين يديها ليكون واقعًا. تقول "الديك" بنبرةٍ من السعادة: "لم أكن أتخيل كلماتي البسيطة قد تُحرّك العالم في إبراز قضيتي، مؤكدةً أن حروفها نبعت من وسط العتمة والمعاناة، وكانت نتيجتها "الحُريّة". وتابعت لـ "بنفسج" بصوتٍ يكادُ ينفجرُ قهرًا: "الاحتلال حاول قتل جنيني، وضُربت بشكلٍ شرس على بطني ومناطق حساسة في جسدي، رغم أني أخبرتهم أنني سيدة حامل، بل زادوا في عنفهم اللاإنساني". وبنبرةٍ خنقتها دمعة محفوفة بالألم، تسرد "الديك"، طلبتُ منهم فراشًا وغطاءً، لأني سيدة حامل، ولكن دون جدوى، فالجميع يعلم أننا تحت سيف محتل لا يعرف معنى "الإنسانية".

وحين طلبنا منها وصف "كرسي التحقيق"، أجابت بنبرةٍ خانقة: "إن أشرس اللحظات التي يتعرّض لها الأسير هي الجلوس على كرسي صلب لفترة قد تصل إلى 24 ساعة، دون السماح له بالنوم أو الراحة أو قضاء الحاجة في أغلب الأحيان، مؤكدةً أن بعض جولات التحقيق تستمر أربعين ساعة متواصلة". وعن اللحظات التي كانت تُفكّر بها أنهار وهي توشك على الانهيار، بعد خوض تجربة الميلاد الصعبة داخل أسوار السجن تقول بلهجتها البسيطة: "كتير كنت بتخيل كيف بدي أولد بالسجن، وخاصة ولادتي "قيصري"، كيف بدي أولد ابني جوة السجن وظلمة الزنازين".

أنهار وبنتها.jpeg
أنهار الديك مع جوليا ابنتها

ولم يكن بجوار المحررة أنهار أحدٌ يُخفف الألم ويشدّ من أزرها، فلا زوجٌ ولا أمّ ولا عائلة، بل كانت مكبلة بالقيود في يديها وقدميها، محاطةً بالسجّانين وشراسة السلاسل المكبّلة بها. كبر الجنين في رحم "الديك" التي تنقلت بين الزنازين، وفور دخولها الشهر الأخير خطت رسالةً موجعة أسمعت صداها أحرار العالم. وفي سؤالنا عن أصعب اللحظات، تُجيبنا: "كنتُ مكبلة الأيدي والأرجل دون مراعاة لوضعي الخاص كحامل، وطلبت من السجّانين مرارًا أن تكون أمي بجانبي خلال الولادة لكنهم رفضوا".

الجميع يُخبر "الديك" عن معنوياتها العالية، لكن في لحظة صراحة وواقعية تُخبرنا: "ما حد بحس بالوجع إلا صاحبه". ولم يكتفِ الاحتلال بإجرامه ضد الأسيرات في سجونه، حتى قرر القضاء على جنين "الديك" لكنه فشل بذلك. اعتقال "الديك" أشد وطأة من باقي الأسيرات؛ لأنها تحمل في أحشائها جنينًا، وجسدها بحاجة إلى رعاية خاصة، فالحالة الاعتقالية بجميع أشكالها مؤلمة؛ فالاحتلال لا يفرّق بين رجلٍ وامرأة، مستغلًا خصوصية المرأة بالضغط عليها من أجل تزويده بالمعلومات.

| تعذيب الأسيرات

أنهار.jpg
أنهار الديك وزوجها وابنتها جوليا

بنبرةٍ من القهر، تُحدثنا "الديك" عن عذابات الاحتلال للأسيرات الفلسطينيات داخل سجونه، قائلةً: "إن الأسيرات يتعرضن لانتهاكات عديدة، منها التحقيقات القاسية والعزل الانفرادي، علاوة عن الاقتحامات الليلية لغرف الأسيرات، وضربهن أثناء نقلهن للمحاكم على أيدي قوات "النحشون" المتخصصة بعملية النقل، وشتمهن بألفاظ بذيئة".

وأكدت أن الأسيرات يعانينَ من ظروفٍ صحيةٍ صعبة، وإهمال طبي متعمّد، مشيرةً إلى الاعتداءات الجسدية، والتهديد المتواصل، والحرمان من زيارات الأهل والأحكام والغرامات العالية". وأشارت "الديك" بنبرةٍ من الجرح الفلسطيني، السجان الإسرائيلي يتعمد إيذاء الأسيرة الأم في جوانب عديدة، أهمها حرمانها من زيارتهم المباشرة، واحتضان الأطفال، والتقاط الصور معهم، رغم أن القانون الإسرائيلي يسمح لها بذلك".

وتستطرد: "الاعتقال صعب للغاية، لا يعرفه إلا من جربه، وأنادي كل أحرار العالم، أن يلبوا نداء كافة الأسرى والأسيرات، بالإفراج الفوري والعاجل عنهم". يُشار إلى أن  ثماني أسيرات وضعن  أولادهن خلف الأسر، وفي ظروف قاسية، يعشنها بين قضبان سجون الاحتلال الإسرائيلي. وتتعمد سلطات الاحتلال التنكيل بالأسيرات الحوامل، وعندما تحين لحظة المخاض يتعمّد الاحتلال تكبيل يديهن وأقدامهن بظروفٍ قاسية جدًّا.