بنفسج

قفص العذارى: تأملات في واقع النساء

الإثنين 20 ديسمبر

كانت نصف حَلقة، وكُنت أحلِّقُ "خارج السّرب"، أفكّر في قفصِ العذارى، ذلك الحيّزُ المُضاد للعقل والحريّة، أين تسبحُ أرواحُ أجسادٍ خاوية، تُعزفُ على أوتارِ التعصُّب وتحت مسمّى الإسلام مختلف أشكال الاستبداد والدونيّة، مُعلَّلَةً بظاهر (النصّ)، دون بذل أدنى جُهدٍ في الفهم الصّحيح ولا في إعادة قراءة الأصول وتأويلها.

عبثًا أُحاول تجميع القِطع، أستحضر ما مضى، ما حضَر، وما قد يكون، ما عايشته من وقائع وما مرّ عليّ من تناقضات، ما كان يستفزّ عقلي فيجعله معلّقًا بألفِ سؤالٍ وسؤال، وما كان يصيبه بالانتكاس، ألملمُ الأحداث، الصّور، السلوكيات، والفروقات، كطائرٍ يُلملمُ القشّ ليبني عُشّه شيئًا فشيئًا، على أساسٍ متين.

| تأملات في واقع النساء 

هو تصوّرٌ قاصر، يجعلُ من المرأة كائنًا غير مصنّف، في عادات وتقاليد بالية لا تنفع، ووفق تأويلٍ مغلوطٍ للآياتِ والأحاديث، مهانة من قبل الرجل (أب/أخ/زوج) ومقيدة بأغلاله في ظلّ فهم خاطئ (القوامة)، ومحاربةٌ كذلك من قبل المجتمع! 
 
فباسم الدين تُجرح نساء وتقصم ظهور أخريات، باسم الدين تُجبر امرأة على الزواج من رجل تتقزز منه (تحت مسمّى ليس بعُذرٍ شرعي)، فتُصبح ملزمة على العيش معه. مظاهرُ الطلاق، الاغتصاب الذي تتحمّل نتائجه الفتيات، العنف المنزلي، الزواج السّري، الختان وما يصاحبه من استئصال أجزاء من الأعضاء التناسلية الجنسيّة للمرأة

أتأمّل واقع النّساءِ من حولي مذُ أدركني الوعي، أغرقُ في سؤالٍ فيشدّني تياره إلى آخر، أبحثُ عن سبب تباين الأفكار والسيكولوجيّات والطّباع في التعامل معهنّ، رغم تلقّي البعض نفس أسلوب التربية والعيش في نفس الوسط (آباء وأبناء)، عن التزام البعض الحِلْم رغم رعونة الأوساط والتزام البعض الآخر منهجيّة التسلّط والتجبّر والجفاء رغم فسحة الشّرع.

عن استثمار البعض الخصال الحسنة في اتّباع الحقّ حين يتّضح لهم، وإعراض البعض الآخر عنه كِبْرًا واستعلاءً، عن وسطيّة التعامل السليم تمتزج بين اللين والتلطّف، المزاح والمداعبة، وبين الشدّة والحسمِ مرّات حين يستلزم الأمر ذلك دون إفراطٍ ولا تضييق، في حين يعتمدُ البعض أسلوب الإلغاء والدونيّة، الزجر والاستعباد دون تلطّف ولا ترفّق.

كيف لبيتٍ واحدٍ مثلاً أن يُنشئ أبناء بأفكارٍ وسلوكيّاتٍ بهذا التّناقُض التامّ في التّعامل والتّقييم؟ أحاول تفسير ذلك بشكلٍ سطحيّ، فتنتشلني أحداث وحقائق لأمثلةٍ عايشتها وأخرى خبرتها، تخز عقلي لأدرك مدى تفاهة تلك التفسيرات التي راودتني بالنّظر إلى واقع سلوك الناس وما ينجم عن تلك الاختلافات الفكريّة في تكوينهم؛ فبقدر تنوّع الخبرات تتعدّد مهارات السّلوك.

فمن النّاس من يُروّض نفسه ويضبط انفعالاته ويتربّى على إدراك التنوّع والاختلافات، والعلم بعُمق الرّوابط الاجتماعيّة، وثقل دور المرأة بعيدًا عن مبدأ التّهميش. ومنهم من يغلو ويتطرّف ويعتمد مبدأ التّعميم حين يعمِيه التزييف، ولو أنّهم اعتمدوا ميزان النبوّة؛ وهي بوتقة التربية ومساحة العدل وأفق الإنسانيّة؛ لأدركهم الوعي، لكن ما وعينا إلا قليلاً!

لابدّ وأنّ الأسئلة في هذا الباب كثيرة ومتشعّبة، والأمثلة أكثر وأوسع وأعمق، وأشدّ قسوة وأبشع تصويرًا إن أردنا التفصيل، نصادفُها في تفاصيل حياتنا اليوميّة ضمن أقاربنا، عائلاتنا أو محيطنا. تفسيرها يتطلّبُ غوصًا وبحثًا عميقًا في التركيبة النفسيّة للمجتمع -ولستُ بصدد ذلك هنا-.

صحيحٌ أنّ الحداثة الغربيّة، والنهضة العربية الأولى، ولّدت حراكًا إنسانيًا عميقًا في كل أرجاء الكون، فأدركَ معاقل المجتمعات التقليدية والإسلاميّة أيضًا مثلما أدركَ غيرها، وبسببه أثار فريقٌ من رجال التّنوير في مُدننا -مُدن الإسلام المُعَولم- أسئلةً حول المرأة وحريّتها، وعلاقة ذلك بالإسلام وتعاليمه وأحكامه، تلك الأسئلة التي ما لبثت المرأة أن استأنفتها وأثارتها بدرجاتٍ مُتفاوتة، منها ما وُضع بموضوعيّة وعقلانيّة، ومنها ما أُثير بحدّةٍ ورفض وتمرّد ليشكّلن بذلك تيارًا نسويًا رافضًا أخذ منحى سلبيًّا غير قويمٍ لا يناسبنا ولا يخدمنا بأيّ شكلٍ.

| هل كُسر القفص حقًا؟ 

قفص23.jpg

غير أنّ مجتمعاتِنا ورغم كلّ ما طالها من تحرّر من بعض قيود التّقاليد والمجتمع، والجهل والتخلّف، فاتسعت بذلك مساحة الحريّة التي تشغلها النّساء، بعض الشيء، فما عُدنا نرى لها حدودًا مقارنة بأزمنةٍ خلت، إلاّ أنّها ما تزال تُخفي في ذلك القاع البعيد، خلف الجُدران والأبواب الموصدة، بين ثنايا ذاكرة الكثيرين والكثيرات، في قلوبٍ تشرّبت الاستعباد والذلّ وطاقت لتنال بصيص الحياة كحقّ بسيطٍ مثلها مثل الجميع، مظاهر رهيبة من الجهل ينفر المرء منها، يقفُ الواحد منّا أمامها مدهوشًا، أين يصطدم مع ذلك الواقع البائس الذي مازال يطوّقُه الفهم المحدود والتصوّر النمطيُّ السّائر للدين.

هو تصوّرٌ قاصر، يجعلُ من المرأة كائنًا غير مصنّف ومجرد من أغلب الحقوق، في عادات وتقاليد بالية لا تنفع، ووفق تأويلٍ مغلوطٍ للآياتِ والأحاديث، مهانة من قبل الرجل (أب/أخ/زوج) ومقيدة بأغلاله في ظلّ فهم خاطئ (القوامة)، ومحاربةٌ كذلك من قبل المجتمع! فهو يُحاول بغروره وتعسّفه أن تكون نصف روحٍ، مجهولة الهويّة، بدل من أن تكون نصف المجتمع!

فباسم الدين تُجرح نساء وتقصم ظهور أخريات، باسم الدين تُجبر امرأة على الزواج من رجل تتقزز منه (تحت مسمّى ليس بعُذرٍ شرعي)، فتُصبح ملزمة على العيش معه. مظاهرُ الطلاق، الاغتصاب الذي تتحمّل نتائجه الفتيات، العنف المنزلي، الزواج السّري، الختان وما يصاحبه من استئصال أجزاء من الأعضاء التناسلية الجنسيّة للمرأة، في بعض البلدان العربية والإسلامية.

جفاء في التعامل مع البناتِ والزوجات، قواعد المجتمع الأبويّ الذي يجردهن من حرياتهن الفردية ويردهن إلى ماضٍ أسطوري، إلى العقلية القبليّة، تلك النظرة الضيّقة لدور المرأة التي تقتصر على وظيفة واحدة هي الإنجاب وطاعة الزوج، صورة الضبط الكامل لحركاتها واتصالها بالعالم الخارجي. أبٌ مستبد يطارد ابنته حول الدّار وبيده سكّينٍ.

إنّ آفات "قفص العذارى" هذه لا تقتصر على النساء وحدهن، وإنما تطال أيضًا الرجال والأطفال، فسجن النساء حفظًا على الشرف لا يجلب الإحباط واليأس لهن فقط، وإنما ما يترتّبُ عنه من مشاكل نفسيّة ومن عُقد، تولّد أيضًا تخلفًا اجتماعيًا لكل الطبقة الاجتماعية التي ستشكلها لاحقًا، فيستفحل الجهل وينتقل منها من جيلٍ إلى آخرٍ، ناهيك عن الخوف والشك والكذب وعدم التقدير الذي سيطال الهيئة الاجتماعية برمتها وسيعمق أحوال التخلف فيها.

إنّنا نظنّ أنّ هذه المظاهر قد تلاشت، لكنّ الواقع غير ذلك، وأكثر ما ينفطر له القلب، مشهدُ فتيات تُسرق منهنّ الطفولة في سنّ مبكّرة، يُمنعن من المدارس خوفًا من العار وحفاظًا على الشّرف من أن يُلوّث، فترى دموعهنّ وتسمع توسّلاتهنّ من أجل متابعة مسارهنّ الدّراسي ككلّ فتيات جيلهنّ، أن يَحلمن ويرسمن آمالهنّ وتطلّعاتهنّ للمستقبل: سأكون مهندسة، طبيبة، أستاذة، رسّامة... لكن ليس لتوسّلاتهنّ في القلوب وقع، فيُدفنَّ في "قفص العذارى"، ثمّ يجدن أنفسهنّ مرغماتٍ على الزواج في سنّ الخامسة عشر أو ربّما أقل، تموت في قلوبهنّ كل معاني الطفولة، تلك البراءة، الضّحكة، اللهفة، الآمال والشّغف، باسم الدّين والعادات والتقاليد!

من هنا، يمكن لأي فتاة أن تعلن التمرّد على كل مظاهر الدين ب"الوكالة"، لتتحرّر من قيود المجتمع الأبوي، لتفرّ من قفصِ العذارى. من هذه المظاهر التي لا تمتّ للدين بأيّ صلة، تظهر الردة، والذي يعتبرْنَه عبثًا "أداةً بديلة" لخواء الماضي وصدماته وإخفاقاته، ليُعزّزن به وجودهنّ في العالم، ذاك الوجود الذي انهار انهيارًا تامًا في منابعه الأصليّة، منبع العائلة، حيثُ الحبّ والعطف والاحتواء، ومنبع الوطن الغارق في الجهل والاستبداد والفقر، ولم يبق لهنّ إلاّ أمل المستقبل.

ومن هذه المظاهر يتصيّد فريق التيار النسوي وغيره الإسلام لمهاجمته، والتي ما هي في حقيقتها سوى هجومات تصدُر عن عقلٍ وجدانيٌّ مأزوم مرتدٍّ على التراث والماضي. هجومات تطال حقيقة الثقافة المشخّصة، لا الدين في ماهيته الروحيّة والعقليّة. وتتعلل بنظرة نسبية جاحدة للمطلق الإلهي، وطبعًا تنتهي إلى الزعم بأنّ الإسلام لا يتوافق مع حقوق الإنسان، وأنه يُنمّي عقليّة قروسطيّة قائمة على مفاهيم القبيلة والشرف والعار والخوف، لا على عقليّة الوسطيّة في التعامل والتسامح والسلام.

إنّ آفات "قفص العذارى" هذه لا تقتصر على النساء وحدهن، وإنما تطال أيضًا الرجال والأطفال وجملة الثقافة الإسلامية، فسجن النساء حفظًا على الشرف لا يجلب الإحباط واليأس لهن فقط، وإنما ما يترتّبُ عنه من مشاكل نفسيّة ومن عُقد، تولّد أيضًا تخلفًا اجتماعيًا لكل الطبقة الاجتماعية التي ستشكلها لاحقًا، فيستفحل الجهل وينتقل منها من جيلٍ إلى آخرٍ، ناهيك عن الخوف والشك والكذب وعدم التقدير الذي سيطال الهيئة الاجتماعية برمتها وسيعمق أحوال التخلف فيها.

علينا إخراج مظاهر هذا "التدليس باسم الدين" إلى دائرة الشفافية والضوء لرؤيتها عِيانًا وللتحقق من أصولها ودلالاتها ومسوّغاتها، ومن قيمتها أيضًا، والتي لا ينفع فيها إطباق الجفنين عنها وإغفالها، ولا منهج الاتباع التقليدي السادر لكلّ السلوكيّات دون تمحيص، والتي ما هي في أغلبها سوى عقد فرديّة نابعة عن أزمات نفسية أو تجارب أو صدمات أو حتّى خبث تشرّبته العقول.

هي نصفُ حلقة، أُغادرها أنّى شئتُ دون تحديدٍ ولا تضييق، بحريّة مُطلقة، لأغترف من العلم متى شئت وأينما أردت، لأعبّر عن رأيي وأشكّل ماهيتي البسيطة، لأمارس ذاتي بكلّ ثقة، لأحلّق خارج السّرب بقلبٍ يشتعلُ حماسةً وإيمانًا، دون الحاجةِ للتّوسّل ولا لرفعِ أعلامِ التنوير!