بنفسج

سر قلبي الجديد

السبت 23 يوليو

بعد ولادة عبد الله اختبرت إحساسًا جديدًا؛ لا أتكلم عن الأمومة لكنه إحساس أن هناك من هو أولى منك؛ أنتِ اليوم ضعيفة ومريضة، وربما لا تستطيعين فهم مشاعرك، لكن مع هذا كله يتساءل الجميع عن أحوال الصغير، وينشغلون بمساعدتك على تقديم الرعاية الكاملة له، بينما يكون طفل ما في داخلك يتساءل "وأنا؟!". في هذا الوقت تحتاجين للأحضان الطويلة والمواساة بسؤال عن أحوالك أيتها الأم التي تبدو قوية وكبيرة وعلى ما يُرام، بينما هناك طفل في داخلك يتساءل عما حدث.

بعد الولادة لا تكونين أنتِ، جسدك القادر على المقاومة والتحامل يخذلك، تتعرفين إليه من البداية كأنه خُلق للتو، وربما منذ هذه اللحظة تُدركين أن هناك من يأتي قبلك في كل شيء، هناك من هو أولى منك، تُقدمين تعبه الجسدي على تعبك وراحة نفسه على راحتك ومشاعرك، ثم يُكافئك الصغير بابتسامة تكون لك وحدك، حتى وإن لم يكن يَراك بوضوح بعد، أو بالتفاتة لرأسه تتبع مشيتك حين تمُرين بجانبه وغيرك يحمله، حتى وإن مررتِ بصمت فإنه يَتبعُ رائحتك.

ثم لا يُصبح قلبك كقلبك القديم، قلب الابنة قد ذهب بلا رجعة، ولم يعد بحوزتك سوى قلب الأم القوي. بعد طفلي الأول عبد الله جاءت مريم، فتجددت أمومتي بطعم مختلف، أمومة أكثر وعيًا وأنجح في استشعار المشاعر وتشربها والتشبع بها.

أضعها في حمالتها، فتحيط خصري برجليها، أغطي ظهرها بقماش الحمالة، فتضم جسدها إليّ وتضع رأسها على كتفي، فوق قلبي تمامًا، يخفق قلبي في كل مرة ويدفأ، ثم تهدأ بعدها ويستكين كلانا، وتنام إن أرادت ذلك، أستطيع أن أقبل رأسها طوال الطريق وأشم رائحتها بإيماءة رأس بسيطة. حملتها فيها مذ كان عمرها أسبوعًا، كنت أضم قدميها وأضعها وجهها إلي، فيكون جسدها ملاصقًا لجسدي في وضع أشبه بوضعها داخل رحمي، فتهدأ، وتستكين وتنام لأنها تجد ما اعتادت عليه وتشم رائحة ماما.

ثم يكبر الصغيران عبد الله ومريم قليلًا، ويتحول الرابط العاطفي لإرضاعهما وملئ جسديهما الصغيرين بالغذاء والحب إلى طعامي الذي أعده لهما، يشعر الأطفال بالطمأنينة من وقفتي في المطبخ لتحضير شيء للأكل، تمامًا كما كنت أحتضن جسديهما الضئيلين، ليتناولا وجبتهما من الرضاعة التي يصنعها جسدي لتسري في جسديهما هنيئًا مريئًا. أحضر لهما وجبة خفيفة، أكسر البيض وأقلبه بيدي مع السكر والدقيق واللبن، مستغنية عن المضرب الكهربائي، كل حركة ليدي تحرك قلبي معها، أحببت هذه الأداة الصغيرة التي توصل كل حركة حب إلى الوجبة التي أعدها، ثم يتناول الصغيران حبي لهما فيدفآن ويهدآن. 

لا يعلم الصغيران أن كل انتصار صغير لهما هو انتصار لي، و كل تحدٍ يقابلانه هو تحدٍّ لقوة قلبي، ومدى قدرته على خوض تحدي الأمومة، أتذكر صورة ما؛ تشبه نظرة صغير لأمه وهما يعبران الطريق بنظرته لدب كبير قادر على هزيمة كل شيء يقابلانه، هذا الدب هو قلبي الذي قرر أن كل شيء كنت أخافه وأتجنبه.

أحصل على وجبات صغيرة من الحب على مدار اليوم قبلة من هنا وعناق عميق من هناك، فيهدأ قلبي ويستقر مكانه، ويطمئن أن الحب لا يزال يملك تأثيره المطلوب في ارتواء قلبي وطمأنته. ثم أكليني يا ماما، يطلبها عبد الله، ويرى فيها تعبيرًا عن حبي له، كنت أنهره باعتباره متكاسلًا لا يريد الاعتماد على نفسه، لكني اكتشفت مؤخرًا أنه يطلبها ليشعر بالحب، يطلبها مبتسمًا فلا أستطيع رده. الطفل هو الوحيد الذي يشعر بالأفعال كما هي عليه في الحقيقة، يشعر بحبك أو كرهك من نظرة عينيك.

‏مريم أيضًا فهمت فعل الأكل كفعل حب مذ بدأت تمسك الأشياء بأصابعها، تمد يدها إلى فم من تحب وتطعمه من طعامها، وإذا نفد ما في طبقها تخرج ما في فمها لتضعه في فمك وتأخذ قلبك للأبد، اليوم أخذتُ الطعام من يدها ووضعته لنفسي في فمي. ‏امتعضَت قليلًا وأصرّت بعدها على أن أفتح فمي لتضع الطعام فيه، ففتحته وتناولت الطعام من يدها، ثم قبلت يدها بعدها لتشعر بامتناني.


اقرأ أيضًا: الأمومة: مدرسة النَفَس الطويــــــل


لا يعلم الصغيران أن كل انتصار صغير لهما هو انتصار لي، و كل تحدٍ يقابلانه هو تحدٍّ لقوة قلبي، ومدى قدرته على خوض تحدي الأمومة، أتذكر صورة ما؛ تشبه نظرة صغير لأمه وهما يعبران الطريق بنظرته لدب كبير قادر على هزيمة كل شيء يقابلانه، هذا الدب هو قلبي الذي قرر أن كل شيء كنت أخافه وأتجنبه، صار يتوجب عليه مواجهته إذا كان الأمر يتعلق بالصغار، شيء غريزي يدفعه لخوض المعركة والتغلب على مخاوفه الخاصة، لأنها خاصة به وحده، ولا تعني الصغار في شيء، ولأني يجب أن أكون حامي قلوبهم القوي، أول من يصدقهم ويشعر بمشاعرهم الغضة ويحتويها، ويَعبر بها معهم إلى بر الأمان والسكون، فتصير قلوبهم أكثر قوة وثباتًا لا مجال هنا للتراجع أو الخذلان.