بنفسج

عن لهفة المشاعر: في مشقة الوصول وغربة الوجوه

الأحد 11 سبتمبر

ماذا لو قررت الذهاب إلى رحلةٍ إلى الشاطئ برفقة عائلتك في إجازتك؟ كم تستغرق وقتًا في الطريق؟ وما هي الوسيلة التي ستستخدمها للتنقل؟ وكم حقيبة تحتاج لهذه الرحلة؟ دعوني أخبركم عن رحلة تهريب الفلسطيني الذي يعيش في الضفة الغربية، لزيارة الشاطئ المحتل عن طريق فتحات التهريب الموجودة على المناطق التي تحد أراضي الداخل المحتل، والتي يعلم الاحتلال بوجودها، لكنه يتغاضى لأسبابٍ كثيرة.

يستيقظ صديقنا فجرًا، يقف مستعدًا لرحلةٍ تستغرق منه ثلاث ساعاتٍ، ربما أقل وربما أكثر، ينتقل من مدينته بالحافلة إلى نقطةٍ أخرى يعود ليحمل متاعه ويفقد رفاقه من الأصدقاء أو العائلة، ثم يسير لخمسة عشر دقيقة سيرًا على الأقدام، في أرضٍ وعرة ومسارٍ متعرج، قد تسقط أرضًا لو لم تكن حريصًا، لتصل إلى النقطة الثانية وتصعد إلى حافلةٍ أخرى تسير بك الآن إلى أرضك المحتلة.

 هذه الأرض التي سمعت عنها من روايات جدك وكتبك المدرسية وبعض المسلسلات، لكنك من الجيل الذي لم يحظَ بزيارتها والتمتع بجمالها منذ سنوات. كلما اقتربت أكثر، خفقات قلبك تزداد، أنت الآن بالقرب من المكان الذي سمعت عنه كثيرًا، وشاهدت له مقاطع مصورة، لكنك لم تمشِ على شاطئه ولم ترافق أهلك إلى معالمه من قبل، ولم تقطف الكرز والبرتقال من بياراته وأراضيه.

أهلًا بك في فلسطين المحتلة، بشوارعٍ لا تشبه تصوراتك، وأناسٍ غرباء ينظرون إليك باستغراب، وربما بتوجسٍ أو استياء. كل ما فيك يشير إلى هويتك ومكان قدومك، لهفتك للمكان، نظرات التعرف والتفقد. الغرباء الذين ينظرون إليك أيضًا لم يعهدوا رحلاتٍ وباصاتٍ قادمة من الضفة الغربية إلى شواطئ فلسطين المحتلة، يريدون التفرد بالمكان بلا صورٍ تذكرهم بحقيقة الحدث.

في رحلتها التي كان من المفترض أنها بغرض الاستجمام تحمل الفلسطينية أطفالها، وحقائبَ أعدتها لرحلتها بتعبٍ، ومشقة بعد مسيرة ساعاتٍ في الطريق. بالمقابل، تخرج المستوطنة الإسرائيلية من سيارتها بملابس السباحة وحقيبةٍ صغيرة تكاد لا تكفي هاتفها وتمشي على الشاطئ باستمتاع وراحة، ربما استغرق منها الوصول دقائق بسيارتها الخاصة، لا يُعجبها وجودك واستخدام مرافق مشتركة معها ولا الاستماع إلى لغتك العربية.

تغير كل شيء يا جدي، المرافق والأماكن والأناس، وحدك تعلم المكان جيدًا وتسير به متعرفًا على رمال شاطئ يافا وأسوار عكا القديمة، والزقاق الذي تحد جامع الجزار، نحن كبرنا وحُرمنا من سهول بيسان وبحيرات السخنة وشلالات بانياس وميناء يافا، ومنارة إيلات، حُرمنا من صلاة الجمعة في المسجد الأقصى ومن كعك القدس.

في الحقيقة، وعند زيارتي الأولى، كنت أبحث في الشوارع عن البيت الفلسطيني القديم، أجلس بجانبه باحثةً عن القرب والأنس هروبًا من غربة المكان والأشخاص. تغير كل شيء يا جدي، المرافق والأماكن والأناس، وحدك تعلم المكان جيدًا وتسير به متعرفًا على رمال شاطئ يافا وأسوار عكا القديمة، والزقاق الذي يحد جامع الجزار، نحن كبرنا وحُرمنا من سهول بيسان وبحيرات السخنة وشلالات بانياس وميناء يافا، ومنارة إيلات، حُرمنا من صلاة الجمعة في المسجد الأقصى ومن كعك القدس، فوجدنا أنفسنا عند أصعب شعورٍ يراودك وأنت في وطنك، شعور الغربة والوحشة.

نسير في الرحلةِ التي خرجنا للاستمتاع بها حذرين من سيارات الشرطة وعناصرها، فهم في أي لحظة يطلبون منك الوقوف وإبراز الهوية والتصريح، وأنت لا تملك كلاهما. وكذلك الأمر بالنسبة لزيارة المسجد الأقصى التي تمر فيها بساعاتٍ من المشقة والكبد، لتصل إلى مسجدك الذي لا تستطيع الصلاة فيه سوى في ليالي رمضان، مستأنسًا بنور قبته وصوت الأذان يبعث فيك الراحة بعد التعب والظمأ.


اقرأ أيضًا: ​​لماذا تعمل الفلسطينيات في المستوطنات " الإسرائيلية"؟


مشينا كثيرًا يا جدي، لأن الحافلة عليها أن تكون في منطقةٍ بعيدة حتى لا تلمح الشرطة وجودنا مرةً أخرى حاملين حقائبنا وأطفالنا. يشبه سيرنا سير التغريبة الفلسطينية، منهكين من نهاية يومٍ شاق يُتعب الروح والنفس قبل الجسد، بل أكثر. الزيارة الأولى تدعوك لعدم العودة أبدًا إلا بوجود أهلها الأصليين بملامحها العربية الأصيلة، إلا أن الثانية تختلف تمامًا، فها أنت تعلم حجم المعاناة جيدًا فكانت استعداداتك أفضل.

هم يعلمون غربتهم لكنهم ينكرون، ونحن نعلم حقنا لكننا لا نتكلم، إلا أن ثمة شعورٌ قوي يشدك لها من جديد رغم وعر الطريق وخطورتها، رغم غربة، رغم معاهدتك لنفسك على عدم الرجوع، هذا الشعور يدعوك للعودة إلى ميناء يافا متأملًا سحر الغروب، يدعوك إلى الصلاة في ساحات الأقصى تحت نور قبابه.

شاطئ يافا فلسطيني، الحق لك، أنت أولًا والغرباء هم الغرباء، الميناء والحجر والصخور كلها تفوق أعمارهم جميعًا، هنا كان الجد الفلسطيني، وهنا أُخرج قسرًا وهو شاب ليمضي عمره في مخيمات اللجوء يصارع قسوة الغربة واللجوء ولوعة الاشتياق والحرمان، أما السبعينية الغريبة تقضي وقتها بين الميناء والشاطئ متنعمةً بإجازتها، على أنقاض بيتك يا جدي وفوق جثث أصحابك الذين حاربوا ليبقوا.

هم يعلمون غربتهم لكنهم ينكرون، ونحن نعلم حقنا لكننا لا نتكلم، إلا أن ثمة شعورٌ قوي يشدك لها من جديد رغم وعر الطريق وخطورتها، رغم الغربة، رغم معاهدتك لنفسك على عدم الرجوع، هذا الشعور يدعوك للعودة إلى ميناء يافا متأملًا سحر الغروب، يدعوك إلى الصلاة في ساحات الأقصى تحت نور قبابه، وفي داخلك يقين أكبر أن اختيار هذه الأرض لاحتلالها لم يكن عبثًا، أنت الفلسطيني تبعد أمتارًا قليلة عن مدنٍ خلابة تمتلك من التنوع والجمال ما لا تتصوره.