بنفسج

بعد سنوات من الانتظـــار... أهلا يا "ماما"

الأحد 23 أكتوبر

ها أنا بعد سنوات عجاف ذقت خلالها مرار الحرمان من الأطفال، أتجرأ وأكتب قصتي لعلها تكون معينًا لمن يشابه حالتي، الحكاية تطول والقصص كثيرة والآلام مبرحة، والقلب وصل أنينه مبلغه. ولكني أودّ أن أقولها بملء القوة والأمل في كرم الله الذي أنعم عليَّ بفضله بعد سنوات انتظار عديدة. لأبدأ لكم من بداية الحكاية، فأنا تستهويني البدايات عادة؛ لقد قدر الله لي الزواج من رجل خلوق عشنا أول حياتنا بهدوء، حتى أصابتني وعكة صحية في المعدة، فأصر عليَّ أن أذهب للطبيبة للاطمئنان بأن كل شيء على ما يرام، فاجأتنا الطبيبة أثناء الفحص بخبر حملي، طارت الفراشات في صدري، وعزف القلب معزوفته الأولى، وصارت لحياتي لون زاهي، وشرعت في بناء الأحلام على طفلي القادم في الطريق، انتظرته بلهفة وشوق ولا سيما هو البكر، أردت أن تكون تربيته ترضي الله ورسوله.

وفي يوم بلا مقدمات عانيت من ألم شديد في بطني، فلم أعط للموضوع أي أهمية، ولكن زوجي أصر اصطحابي إلى المشفى، أخبرونا هناك بأن الوضع سليم ولا داعي للقلق، وإنني أحتاج لبعض السوائل، وحين كنت على سرير المشفى وإذ بألم مبرح يباغتني، أخذت نفسًا طويلًا وقاومت حتى بدا الألم يزداد شيئًا فشيئًا، بدأت صرخاتي تخرج أكثر ولم أعد تلك الفتاة القوية.

يتعالي صوتي أكثر وأكثر، لم أعلم وقتها أكنت أصرخ من الألم أم من الصدمة والخوف من أن أفقد طفلي الذي انتظرته. ولكن في تلك اللحظات لمعت في ذهني آية: "فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَوٰةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا"، فظللت أرددها. فسكنت نفسي، ولكن زاد ألمي الجسدي، وأصبحت أردد "اللهم إني أُشهِدك بأني قد رضيت بكل ما أردتهُ من عطاءٍ وحرمان". قاومت حتى النهاية وتمسكت بطفلي بكل ما أوتيت من حب، ولكن كان على الروح أن تقول سمعًا وطاعة لخالقها وتذهب إلى من وهبني إياها من غير حولٍ ولا قوة. أخبرني الطبيب أنها كانت حالة ولادة مبكرة ولا يوجد سبب معلوم لما حدث ذلك؟


اقرأ أيضًا: وأخيرًا سأعيش ربيع الأمهات


انتهت آلامي الجسدية في المشفى، وعدت إلى منزلي أحمل هم الدنيا في قلبي، لكن كل من كان يواسيني كان يخبرني بأني قوية، ويجب أن لا أحزن، فأنا الحافظة لكتاب الله المؤمنة، تركت للزمن مهمة التعافي من حزني، لم أعشه بكل تفاصيله حينها،  كنت صابرة راضية، أحمد الله في كل حين وكل حال. نحن بشر، ومشاعر الحزن وضعها الله فينا، فرسولنا وحبيبنا وقدوتنا بكى على ابنه عندما توفاه الله وحمد ربه واسترجع.

مرت السنين وأنا أدور في دائرة الانتظار حتى شاء الله أن يرزقني بالحمل مرة أخرى، فرحت جدًا وقتها، ولكن بذرة الخوف نمت في قلبي خوفًا من تكرار الحادثة الأولى، دارت الأيام وإذ بما حدث بالمرة الأولى يحدث ثانية بكل تفاصيله ودون سبب واضح أيضًا، مع أنني أخذت بكل الأسباب الطبية، ولكن أمر الله نافذ لا محالة.

عدت وحيدة إلى بيتي للمرة الثانية، بكيت جدًا، ولكني صبرت ودعوت الله أن يجبرني، ومرت السنين وبعد جولات كثيرة على الأطباء بشُرتُ بالبتول، لا أخفيكم قلقي في هذا الحمل خوفًا من أن يتكرر معي ما حدث في الماضي. وبدأ خوفي يكبر مع كل يوم تكبر فيه البتول في أحشائي ومع أخذي بالأسباب الطبية، لم أترك يومًا سورة البقرة ودعاء ربي ومناجاته أن يكرمني بالبتول بصحة تامة.

مرّ قطار الأيام والحمد لله بعد مسيرة وهن على وهن، أكرمنا الله بقدوم البتول وصرت "ماما" أخيرًا. كبرت البتول وعاهدت الله أن أربيها التربية الإسلامية الحقة، حرصت على زرع الأخلاق الحميدة في نفسها منذ صغرها، تعرضت للاستهزاء بأنها طفلة لا تفهم شيئًا بعد، ولكني لم أهتم لأي حديث.

حقيقة، كنت أخاف من كل حركة تقوم بها بنيتي وهي في أحشائي، أخاف من رفساتها، وأدعو الله وأبكي. في كل ألم لظهري كنت أستعد لفقدان طفلتي. ويا لفرحتي عندما علمت جنسها، شعرت بأن شمسٌ ستشرق في بيتنا، وأن الفراشات ستزورنا ويزهر الربيع في بيتنا أخيرًا بعد سنوات مريرة. فرحت وخفت في نفس الوقت، شعور لا يعلمه إلا من عانى ألم الفقد وخاف أن يعود.

وصلت الشهر السابع بشق الأنفس وبلوغ القلوب الحناجر، ومع أن في هذا الصراع رجحت كفة أحلامي على مخاوفي إلا أنها بقيت. مرت الأشهر وكان هناك دعاء يرافقني، كنت أدعو الله أن يجعلها من أهل الحق، وأن يرفع ذكرها في السماء والأرض كما رفع ذكر أمنا البتول مريم، وأن يجعل لها شأنًا في الدنيا والآخرة. ودعوت الله أن يعينني على تربيتها تربية تكون لي شفيعة في الجنة.

مرّ قطار الأيام والحمد لله بعد مسيرة وهن على وهن، أكرمنا الله بقدوم البتول وصرت "ماما" أخيرًا. كبرت البتول وعاهدت الله أن أربيها التربية الإسلامية الحقة، حرصت على زرع الأخلاق الحميدة في نفسها منذ صغرها، تعرضت للاستهزاء بأنها طفلة لا تفهم شيئًا بعد، ولكني لم أهتم لأي حديث.

تعاونت مع زوجي على تربيتها التربية التي أريد مع مراعاة أنها طفلة، فكان على زوجي مهمة تعليمها التسبيح. بعد كل صلاة يناديها لتلعب معه تجلس في حضنه على سجادة الصلاة، ويبدأ بمسكِ أصابعها والتسبيح عليهم مع دغدغتها في النهاية لتصبح هذه عادة تطلبها. أما أنا فأجلس معها بعد صلاة العشاء نقرأ القرآن. تأتي ركضًا تتسلق لتجلس بحضني، أضع بين يديها المصحف وأبدأ أرتل على مسامعها الآيات، فترفع رأسها تنظر إليَّ مع ابتسامة جميلة، وعند الانتهاء يجب أن تقبل المصحف وتضعه على رأسها، لا تفعل هذا إلا للمصحف مع أني عودتها على الكتب من صغرها، ولكن وضع الله للمصحف في قلبها فرحة ورهبة.

طلبت من والدها أن يكون صديقها قبل أن يكون والدها وربيتها على حب والدها، صارت هناك علاقة مميزة بينهما، لاحظها الجميع، واعتاد والدها أن يأخذها معه في كل المناسبات.  أتمت ابنتي عامها الأول وها هي تمضي إلى عامها الثاني بكرم الله ولطفه، وانتقلت بها إلى مستوى آخر من التربية مناسب لعمرها، علمتها عندما ترتدي ملابسها أن أظهر إعجابي بها، وأقول: "ما شاء الله واو كتير حلو يا ماما". وعند وقوعها وهي تلعب: "ماما قومي واحكي الحمد لله". وعلمتها أن تعتمد على نفسها وتستعين بكلمة يا رب.

وأخيرًا أقول لكم: "إخواتي، أولادكم أمانة في أعناقكم سوف يحاجوكم أمام الله يوم القيامة إن قصرتم في تربيتهم. أقيموا الإسلام في بيوتكم وحصنوا عقول أطفالكم مما يعرض لهم عبر الإنترنت ولا تنسوا أن صلاحكم يحميهم".