الأربعاء 12 تشرين الأول، وفي الطريق الواصل بين رام الله وجنين، أطفاله في المقعد الخلفي للسيارة وزوجته إلى جانبه، وصديقتهم ترافقهم الطريق. يسأل عبدالله موجهًا كلامه ل عمر وزين: مين بتحبوا أكتر ماما ولا بابا، يجيبون ويعلى صراخهم: بنحب ماما اكثر! تبتسم أنصار لفوزها في الرهان، ويقول عبدالله: "ماشي يا ولاد! المهم اهدو، الطريق ملانة مستوطنين". جواب عبدالله هذا، يفتح النقاش في الطريق عن الحالة التي تمر بها الضفة الغربية من تصاعد هجمات المستوطنين، وعن مجموعات المقاومة والمطاردين في نابلس وجنين، ويلُخص عبدالله في حديثه إلى القول: "في جنين الناس كلها بتقاوم، مش بس المطلوبين والمطاردين المعروفة أسماؤهم ل الاحتلال… في ناس بتقاوم بالليل، والصبح بتروح ع دوامها عادي! وما حدا بعرف عنهم إشي".
| الطبيب المشتبك
في 14 تشرين الأول، وبالقرب من مستشفى جنين الحكومي، ومع شروق شمس يوم الجمعة، يُصاب أحد المشتبكين برصاصة قناص أثناء اقتحام قوات الاحتلال لمخيم جنين. يُسعفه الرفاق الى المستشفى، مُصابًا بحالة حرجة ورصاصة اخترقت رأسه، على سرير الطوارئ، يزيح الطبيب المناوب اللثام عن وجهه، لتكن الصاعقة، المصاب زميله وصديقه الطبيب عبدالله الأحمد أبو التين! يحاول إنعاشه فتفشل كل محاولات الأطباء في إنعاشه، فقد هشمت الرصاصة رأسه، ويستشهد عبدالله!
انتهى هذا الحديث السريع، ولم يخطر على بال زوجته والصديقة المرافقة لهم، أن عبدالله يتحدث عن نفسه، عن حالة محددة وعن طريق واضح بيّن قد اختاره لنفسه. يومان بعد هذا الحديث، في 14 تشرين الأول، وبالقرب من مستشفى جنين الحكومي، ومع شروق شمس يوم الجمعة، يُصاب أحد المشتبكين برصاصة قناص أثناء اقتحام قوات الاحتلال لمخيم جنين. يُسعفه الرفاق الى المستشفى، مُصابًا بحالة حرجة ورصاصة اخترقت رأسه، على سرير الطوارئ، يزيح الطبيب المناوب اللثام عن وجهه، لتكن الصاعقة، المصاب زميله وصديقه الطبيب عبدالله الأحمد أبو التين! "ما زال هناك نبض في جسده"، يصرخ أحد زملائه الأطباء، يُدخل الى العمليات سريعًا، والدته في الخارج تتضرع إلى الله بأن يتلطف بولدها ووحيدها!
ولكن تفشل كل محاولات الأطباء في إنعاشه، فقد هشمت الرصاصة رأسه، ويستشهد عبدالله! يستشهد الطبيب الذي رسم طريقه خفية، وكان وأحدًا من هؤلاء الناس الذين وصفهم بقوله: "الناس في جنين كلها بتقاوم"! فكان يمتشق سلاحه ليلًا، ويرتدي مريوله الابيض، ويخرج للعمل صباحًا. عبدالله أبو التين، 42 عامًا، أب لطفلين هما عمر وزين، كان يصفهم دائما بقوله: "عمر وزين، دم قلبي هذول".
عاش وحيدًا لأمه والتي بحسب وصف أحد أصدقائه: "شاب شعرها حتى رأته طبيبًا، تشهد له جنين كلها بإنسانيته، ويُكمل حديثه متندرًا، كنا نظن أنه سيضرب لنا سوق مهنة الطبابة، فهو لا يرد أحدًا خائبًا عن بابه". درس الطب والجراحة العامة في إحدى جامعات أوكرانيا، وعاد إلى جنين ليزاول عمله في مستشفياتها، مديرًا لوحدة الإجازة والترخيص في وزارة الصحة الفلسطينية. اقترن برفيقة دربه الطبيبة "أنصار كميل"، الفتاة الثلاثينية التي عاشت ثلثي عمرها تنتظر والدها الأسير في سجون الاحتلال، والذي أُفرج عنه في العام 2013 بعد 21 سنة في الأسر، لم تلتقط أنصار أنفاسها بعد، ولم تعوض سنوات غياب أبيها عنها قصرًا، حتى فقدت زوجها ووالد أطفالها، الطبيب المشتبك عبدالله.
في العزاء اختصرت زوجته كل كلمات النعي لزوجها المُحب، بقولها "الله يرضى عليك يا حبيبي، الله يهنيك بالجنة مثل ما هنيتني بحياتك، (روح وريحان وجنة نعيم) يا رب، مع السلامة يا حبيب قلبي، مع السلامة يا نور عيوني". لم يتناقض طموح الطبيب العلمي والمهني، مع حمله للسلاح ليكون رأس حربة في الدفاع عن بلده، وليكون جنبًا إلى جنب مع رفاقه المقاومين في المخيم أو ممن سبقوه بالشهادة. جمع الشهيد في حياته بين كونه الطبيب الإنساني، والإداري المتزن المرن، ورجل الأعمال الناجح، والوطني المتطرف في وطنيته، والوحدوي الرافض لكل أشكال الانقسام.
اقرأ أيضًا: كيف يحيا فينا الشهيد؟ في ضيافة عائلة الشهيد رائد مسك
يروي أحد أصدقائه: "حين كان يستشهد شاب في جنين، يأتي عبدالله ويقول : ولاد الناس بنقتلوا وانتوا قاعدين؟!" لم تكن كلماته ترفًا، أو كلام لمجرد الكلام والمزاودة، فاللثام الذي أزيح عن وجهه كشف عن صدق كلامه ومبدئه. يتداول الناس في أحاديثهم أن الفارق الجوهري، الذي صنعه الطبيب عبدالله، هو أنه أربك كل التصنيفات النمطية، التي يحاول العالم أجمع أن يعممها على الحالة النضالية في مدن الضفة. ربما حاولنا هنا الكتابة عن سيرة الطبيب والمقاتل المشتبك، وسيكتب غيرنا الكثير، وستمتلىء الصفحات بقصص وروايات يتناقلها الناس عن الشهيد، ولكن اللغة على رحابتها ستضيق بنا حين نلتفت إلى أمه التي تجلس عند قبره وتقول: "لمين تركتني يما"!