بنفسج

سكنتم فؤادي

السبت 18 مارس

على وقع السكين الذي يطرق على لوح الخشب لإعدادِ وجبة للعشاء في مساءٍ باردٍ، باغتني ذلك النشيد المنساب من سمّاعة الهاتف على حين غرّة ليحرّك حبال الذاكرة، "سكنتم فؤادي وربّ العباد"، اتصل حبل الذاكرة مباشرة بحبل من الدموع التي عجزت عن السيطرة عليها، عائلتي لا تعلم إلى الآن أنها تناولت في تلك الليلة هنيئاً مريئاً طبق خضارٍ متبّلٌ بتلك الدموع.

وكذا بين الفَينَة والأخرى تهبّ على الخاطر نسائم الذكريات الآتية من أروقة إحدى كليَات المجتمع التي أتممتُ فيها درجة أكاديمية، ودرجاتٍ مما حسبته، ولازلت أحسبه، صفو الوداد وصدق المسعى وارتقاءِ الغاية ورابطٌ وطيد بين ثلّة من الأفئدة أسمَوهُ "الأخوّة في الله"، وكذا كلّما هبّت تلك النسائم تتبعها في أحيانٍ بسمة، وفي أخرى دمعة.

أذكر وأقول في نفسي من المُحال أن يكون كلّ هذا سراب، من المحال أن يتّخذوا من مشاعرنا وإقبالنا وشغفنا والدماء الحامية التي كانت تجري في عروقنا ولهفتنا ورغبتنا في التغيير مطيّة لغاياتٍ أخرى، من المحال أن يكون كلّ هذا الحبّ مشروط بتبعيّة حرفية لمنهجٍ بعينه.

أذكر كيف كنّا نغلّف المسك نُعطّر به الأجواء وقلوب المستجدّين والزوّار، أذكر كيف كانت تكتظ بنا القاعات الدراسية، ومكتب الأنشطة الطلابية، أذكر حكاياتنا على المسرح وأحاديثنا في الساحات، أذكر جيداً لحظات اللهفة والودّ والمواساة والاحتفاء، أذكر كم كنا نجوب شارع السعادة، أذكر حلقات الذكر وليالي القيام وحملات الخير وهبات المؤازرة للقضايا العادلة، وهل نسيت حتى يتسنى لي أن أذكر؟!

أذكر وأقول في نفسي من المُحال أن يكون كلّ هذا سراب، من المحال أن يتّخذوا من مشاعرنا وإقبالنا وشغفنا والدماء الحامية التي كانت تجري في عروقنا ولهفتنا ورغبتنا في التغيير مطيّة لغاياتٍ أخرى، من المحال أن يكون كلّ هذا الحبّ مشروط بتبعيّة حرفية لمنهجٍ بعينه، من المحال أن يُحال "الحبّ في الله" إلى الحبّ المشروط بتبني فكرة ومنهجٍ وطريقة، بل وبالتشبّث بهيئة وسماتٍ شخصية وشكلية معينة، من المحال أن يزول هذا الودّ بزوال الشرط، ولا يكون ذاك الرابط الوطيد المعلّق بالسماء إلا خيط مهلهل رفيع معلّق بأفكارٍ إقصائية لا تقبل الاجتهاد، من المحال أن يذوي كلّ ذلك في لحظة ويسقط الستار كاشفاً غاياتٍ حزبية تكتّلية بحتة.


اقرأ أيضًا: نظرة عن قرب: كيف تبدو حياتنا نحن الكبار؟


كغيري بعدما غادرت تلك الواحة العبقة محمّلة بجملة من المبادئ والقناعات والسماتِ الشخصية التي لازمتني لأمدٍ لا بأس به، إلى واحاتٍ أخرى، وجدت في الحياة المهنية والعلمية والعملية والاجتماعية متّسعاً لمبادئ وقناعاتٍ أخرى، وفتح التنوّع الثقافي والمعرفي والعرفي والعرقيّ الذي شهدته أفاقاً أخرى، ومجالاً للاجتهاد المبني على الأصول، ووجدت أن لا ثابت سوى التغيير، وأن الأصل والحكمة من الاختلاف التقبّل والتعارف، وألا أرى أنني أرتفع على الآخرين درجة أو درجات لمجرّد أنني أمتلك فكر معين.

قد أكون قد تغيرت شكلاً، وأعدت تشكيل بعض القناعات، وأجريت تحديثاً على منظومة القيم والمبادئ، وتبنيت أفكاراً مختلفة وتركت عني أفكاراً أخرى، وعدلت على بوصلتي الحياتية في استجابة طبيعية لمعطياتٍ وتجارب كثيرة خضتها وخاضَتني، وبما تقتضيه سنّة التغيير، إلا أن الجوهر واحدٌ لم يتغير، بل أحرص على أن أزيده لمعاناً وألقاً، وهو أن أكون على العهد أتبنى رسالة خيّرة لإعمار الأرض وأحرص على تسخير حياتي لها.

 وأن أبقى في معيّة الله أحبه وأحب من يحبه ومن لم يجمعني بهم إلا الحب الخالص لوجهه الكريم، الحب غير المشروط بتبني قناعات وأفكار وسبيل ومنهج وطريقة بعينها، فالحبّ المجرّد لله عندي يعني أن ألا أقيّد من أحب بكلّ ذلك، وأن أرى من أحب يمرح مرتاح البال والفكرِ والخاطر في الحقل الفكري والمعرفي والعملي الذي يريد، وأينما كان وأينما حلّ، يبقى مسكنه في القلب، وإن أخطأ وإن أخطأ وإن أخطأ بنظري ووفق ما أؤمن وأعتقد به.


اقرأ أيضًا: قلوبنا المتجددة: تصنع أعوامًا جديدة لا تنتظرها


هذا ما لم يصلني من تلك الصحبة التي سكنت الفؤاد ولم تغادره رغم البعاد، الصحبة التي كانت تنادي ليل نهار بشعارات الأخوة في الله، واليوم تبدّلت قلوبهم بتبدّل شكلي وقناعاتي وأفكاري وغاياتي ومسعاي.

نعم، لم ولن أخجل يوماً من حقيقة ما أشعر به، سكنتم فؤادي ولم تغادروه، وهذا من طبعي الذي يجلب علي الكمد والحسرة في أحيانٍ كثيرة، فأنا إن أخلصت أخلص إلى حدٍّ بعيد، وما بدأته لله، سيبقى لله ولن يتبدّل، وكذا ما كان بيننا، و"عسى اللَه يشفى غليلَ الصدور ... بوصل الحبايب وفك القيود ... فـ ربي رحيم كريم ودود ... يجود على من يشاء بالمرام ... سلام سلام كمسك الختام".