أقرأ لرضوى عاشور؛ عن أم ندى، بطلتها، المرأة الفرنسية التي لم تذكر اسمها الحقيقي إلا في فصول روايتها الأخيرة، بشكل عابر. تحكي رضوى عاشور على لسان "ندى" شخصية روايتها، عن أمها-أم ندى- الفرنسية التي انتظرت أباها الصعيدي خمس سنوات ليخرج من حبسه، لكنه بعد خروجه بوقت ينفصلا، لأنه اكتشف وقتها فقط أنه لا يستطيع التفاهم معها. أتعاطف مع الأم وأتخيل كم بذلت من جهد لتظهر أمام ابنتها بهذا الثبات طوال سنوات غياب أبيها.
قرأت الرواية ذاتها مرتين في عام واحد قبل 8 سنوات مثلًا، أحببتها وشعرت بقربها لقلبي، لكن وأنا أعيد قراءتها اليوم أشفقت على أم ندى، في كل مرة تحكي عنها من منظور الابنة، أتعاطف مع الأم وأقول: هي تحكي الآن بلسان الابنة، كانت ترى القشرة الخارجية ولا تعرف ما يدور من معارك تخوضها هذه المرأة مع نفسها ومع الحياة؛ تخاف، تتوتر، تحزن، تشعر بالوحدة، بالخذلان، باحتياجها لمن يخفف عنها، يأخذ بيدها ويحتوي هذا الشعور البارد بالوحدة.
حتى الكبار لا يعرفون بشكل قاطع ما الذي عليهم فعله ومتى، كل شيء هنا مليء بالاحتمالات التي لا يمكن حصرها، نفكر ونعيد التفكير خوفًا من ارتكاب الأخطاء، نخطئ فنلوم أنفسنا، نغرق في شبر ماء كالسابق، لكننا حين نكبر، يكبر شبر مائنا -الذي نغرق فيه -معنا. أحيانًا أقول لنفسي إن الاعتراف بالخطأ أقصر طريق للراحة، أعتذر للأولاد عن خطأ ارتكبته، أو أعبر عن حيرتي أو حزني وأقول لنفسي "لست مطالبة بالظهور أمامهم دائمًا بمظهر بطولي، لا مشكلة إن تخففت قليلًا".
بالأمس لم أفتح روايتاي، كما كنت أفعل في الأيام السابقة؛ أفتح لأقرأ من الرواية الأولى فصلًا ومن الثانية فصل، ثم أغلق جهازي، لم يكن قلبي بالأمس قادرًا على حمل أثقال أخرى. اكتفى بثقله الخاص، في هكذا أيام لا يتسع قلبي لمعرفة شيء عن أحزان أشخاص يعيشون بعيدًا أو عاشوا في زمان آخر. أحيانًا أُظهر أني أفهم معضلة الحزن في هذه الحياة، أتوقف عن ضرب قدمي بالأرض وأبتلع حقيقة أن الحزن من صفات هذا العالم وهذه الدنيا، هكذا يقوم الميزان لا فرح أبدي، ولا فرح شامل يشمل الجميع، لا بد من الحزن لتكتمل المعادلة، تتوقف الطفلة عن دبدبة أقدامها في الأرض وتبتلع ما فهمه عقلها، لكن في مرات أخرى كثيرة تُسكت عقلها وتعود لدبدبة قدمها على الأرض مرة أخرى.
اقرأ أيضًا: اهمس بصوتك الخافت: تشدد تشدد وغالب حزنك
أعود مرة أخرى لأتأمل كيف للتجارب الإنسانية أن تتشابه ولو كانت لأناس يعيشون في مشرق الأرض ومغربها لا يهتم أحدهم بوجود الآخر في هذا العالم وحتى في عصر الإنترنت والعوامة، وقبل أن يصبح العالم قرية صغيرة، يمكننا أن نقول لا يعرف أحدهم وجود الآخر في هذا العالم. يمكن أن تجرد أي تجربة إنسانية من كل متغيرات وتفاصيل القصة لتجد المشاعر هي نفسها، يمكن من هنا أن يتعاطف الإنسان مع آخر يختلف عنه تمامًا في كل شيء شكلًا ومضمونًا، يمكنك حينها أن ترى كل هذه لاختلافات مجرد تفاصيل تختبئ وراءها التجربة الشعورية ذاتها، من نفس المنطلق يمكنك أن تتوقف عن الشعور بالتميز.
في الحقيقة مراجعة النفس مهمة لكننا نقسو كثيرًا، ننسى لحظات كنا فيها أمهات جيدات وحنونات وهادئات، ولحظات كثيرة أوفينا فيها بواجباتنا رغم الإرهاق ورغم الإحباط.
يمكنك أن تفكر بأنه ربما أتيح لك ما لم يُتَح لغيرك، ربما لو كنت هناك لانزلقت قدماك أنت الآخر فتصمت حينها وتكف عن المزايدة، تأسرني الفكرة فأعود وأطبقها على أطفالي. لا أخفيكم أنني أندهش حين أفكر بهذا النحو في مشاعر أطفالي، تسابقني أحداث اليوم وواجباته وجدوله الزمني؛ فلا أمتلك وقتًا لأقف قليلا و أتأمل، لكني حين أتأمل وأفكر بأن طفلي ربما هو أيضا يشعر بالتوتر مثلي، تمامًا إن كنت بحجمه وتعرضت لمثل موقفه، ربما هو خائف ربما قلق لكنه لا يستطيع التعبير فيظهر كل شيء من الخارج كالعاصفة التي تغضبني.
وأجدني عاجزة عن التعامل معها خاصة حين يجن جنوني أنا الأخرى، ونصبح عاصفتان تتناطحان لا يسمع أي منا الآخر، كيف يمكنني سماعهم إذا كان صوتي أعلى دائمًا، أُذكّر نفسي من حين لآخر وألومها بالطبع في نهاية كل يوم. تذكرت الآن آفة الأمومة الكبرى؛ جلد الذات، من منا لا تنصب نفسها قاض لنفسها قبل أن تنام كل يوم وبعد أن يهدأ كل شيء.
اقرأ أيضًا: هل ستنتهي بي الأمومة إلى الطبيب النفسي؟
أقول كنت عصبية اليوم أكثر من اللازم، كسرت بخاطره، لم يكن لي أن أتعامل بهذه الطريقة مع هذا الموقف أو ذاك، في الحقيقة مراجعة النفس مهمة لكننا نقسو كثيرًا، ننسى لحظات كنا فيها أمهات جيدات وحنونات وهادئات، ولحظات كثيرة أوفينا فيها بواجباتنا رغم الإرهاق ورغم الإحباط في أحيان كثيرة، صار هذا مخرجي من دوامة جلد الذات اليومية؛ أتذكر لحظات انتصاراتي البسيطة و أتذكر أني أبالغ دائما في لوم نفسي.