رشفة فلسفة قالها لي أحد الأصدقاء ذات مرة: "لكل منّا عامِل باريستا خاص يُعدّ به قهْوته، ويُنقّب من خِلاله عنْ أذْواقه المَجهولة حتّى يُدركها. والذّوق يخْتلف باختِلاف المَزاج، فإذا أدْرك مزاجه الأول، ضَغِن الثاني رغبة في تلبيَتِه المرة القادمة، لذلك، لنْ تجدَ النّكهة التي تسرّ لحظتَك في مكانٍ ما أبعَد من يدَيك، وإنْ كان عامِل الباريستا يحْمل أوْسِمة في إعدادِ القهْوة بأنواعِها!"
ورغم أني أحب القهوة بزهْد، ولستُ من المدمنين عليها، إلا أنّني صادقتُ على ما قيل حين اشتريتُ القهوة من أحَد الكافيهات ولم أشْعُر بطعمِها من غير أن أعْرف السّبب، ولمّا عدتُ إلى المنزل وضعتُ الرّكوة لأعوّض ذاك الفنجان الفارغ من النكهة، ولبثتُ أتبع ملعقة البن بملعقة أكبر، حتى ارتحتُ للكمية رغم ثقلها، كانت القهوة ثقيلة على كل شيء إلا كفّة الميزان الخاصّة بمزاجي حينَها.
في أحيانٍ كثيرة قد نحتاج إلى كلمة واحدة من نوع واحد، أو من شخص واحد، تغيّر مجريات الوقت البطيء إلى خفّة الطير، وأحيانًا تغزر الكلمات من حوْلك بيد أنّ كل شيء يجعلك أثقل من تقبلها؛ لأنّ قلبك يعْرف ما يُريد وعقْلك يريد أن يلتمس ما لا يحيد عنه قلبك. مهما بلغت مساحة الفرح حوْلنا، فهي باطِلة إن لم نقرر الموافقة عليها بأنفسنا، ومهما بلغت عظمة الحزن، نستطيع أن نَجد الضّوء إن سمحنا لأنفسنا بالبحث عنه.
سرّنا في داخل كلّ منا، فالحزن والترح والحب والبُغض، مسميّات تلبّي نداء من هتف لها، وتبسط أمتعتها لمن رحّب بها. فعليك أن تختار بنفسك ألفة المكان الذي يعينك في أوقات شدّتك، ليحيل اليأس إلى الأنس وينبجس الأمل من غلظة القنوط، وتكون أنت كما تريد أن تكون مشاعرك، بمقاساتك الخاصة بك وحدك. وكما قال جميل الزهاوي: إن السعادة في أن ** تنال نفسي مناها.. وأن تكون بمنأى ** عمن يريد أذاها
اقرأ أيضًا: فيلم " conviction".. تعلمي كيف تصنعين الأمل!
وإن لم تكن السّعادة بمفهومها الكامل، إلا أنّ شعور الإنسان بما تلتذّ به حواسه، ومغالبة ما يكدّر صفوها، يؤهله إلى مرتبة ليست ببعيدة عن مفردة السّعادة، ولأن كمال السّعادة من كمال الدنيا -ولا كمال في دنيانا العابرة- فهذا يكفي لنعوّق فترات الحزن في حياتنا، أو نحوّلها إلى ذاكرةٍ مهمَلة، فيصبح وجودها مصدر إلهام لتحرّر النّفس من صِفات الخنوع إلى ما تمقت. حتى الأشخاص الذين يصرّون على إرفاق أذيتهم في أيامك، أنت من تخْتار تَلافي صفعاتهم، أو الإذعان لئلّا تفرغ دائرة الأصدقاء حولك فتظلّ وحيدًا في خيْبتك.
ولا خيْبة أمرّ على النفس من عجز النّفس عن حفظِ مكانتها وأن لا تكون سدًا منيعًا أمامَ من يُجاهد لتلطيخ صفحاتها البيضاء.
ولا خيْبة أمرّ على النفس من عجز النّفس عن حفظِ مكانتها وأن لا تكون سدًا منيعًا أمامَ من يُجاهد لتلطيخ صفحاتها البيضاء. هُناك من يقبض على كفّيك لأنه يرى السّعادة فيك من دون تفسير وإن غيّبتها الأيّام، وهناك من يحاول أن يبحث بك عن السعادة حتى إذا لم يجدْها انتقل إلى محطة أخرى في منتصف الطّريق. فكُن لنفسك تلك الزّهرة التي تبزغ من بين الصّخور أملًا، تَبلج من بين الغلْظَة واليباس لتبْسط عبيرَها على وَجه ناظرٍ لائذٍ إليها. هَزَر في جوْف ليله ليحقن الصّوت الغائِر بما غَفَلت عنهُ ألسن الأحبّة قائلًا: تشدّد تشدّد. أحبّ أن أردّد دائمًا هذه الوصيّة على قلبي الذي لا يزال ينبض رغم كل شيء.
"وأنتَ كما أنت، تُغالب حزنك وتزرَعه شجرة تين عامِرة في إيقاع الأحبّة الذي يفْطم نفسه عن أحبّته، لئلّا يجرح نقْرة فرحٍ عجولة، فتأخذه أتراحه إلى ضفّة لا تؤمن بالكلمات أنتَ الشّجرة الباقية في صدْري، فانزع عنها ثِمارها المتّسخة، واملأ الدّلو لحمًا للأمنيات، كي يتخم الأفق، كنْ طفل السّماء الذي نزا فرحهُ إليه كمن وُلد لأجل العذوبَة فقط"- ولن ينضب نبضه لترح أو يغزر لفرح. فاجعله يرسم نبضه على سجيّته، ولكن بألوانك الخاصة لأنك الوحيد الذي يعرفها.