بنفسج

هل أحببتَ يومًا؟

السبت 24 يوليو

ومن لم يحب يومًا! كاذبٌ ذاك الذي يملأ رأسه الشيب إن قال إنه لم يحبّ يومًا ولم ينبض قلبه لأحد. الحب ليس عيبًا ولا إثمًا، إنّما هو جزءٌ منّا ومن كينونتنا العاطفية، ليس بالأمر الجديد ولا كان سببه الأفلام والمسلسلات، بل يُولد معنا، وضِع في بُنيتنا ليضيف لمسة جميلة لحياتنا. ليس ثوبًا نرتديه بإرادتنا أو نخلعه متى شئنا، بل هو شعور يستحوذنا (يعترينا) فجأة ويصعب علينا إخماده.

إن وقعت في الحبّ يومًا وحاولت كبحه، فعبثًا تحاول أن تخفي مشاعرك، فالحب تبوح به كل تقاسيم وجهك، ونبرات صوتك، وكل تفصيلة في جسمك، حتى إن لم يعبّر عنه لسانك بالكلمات، يكفي أن تبوح به عيونك وتفضحك نظراتك، رعشة الأيدي وخفقان القلب وتسارع نبضاته بقوة، شحوب الوجه ولربما الخجل، القلق وجفاف الحلق. كلّها تفاصيل ستبوح بمشاعرك رغمًا عنك.

لو كان الحب إثمًا لما أزهر في بيت الرسول، صلى الله عليه وسلم، فكان يجهر بحبّه لعائشة، رضي الله عنها، كلما سنحت له الفرصة، ولكم شهد العرب قديمًا مواقف رُوِيت على لسانها ولسان الصحابة لتكون لنا مثلاً يُحتذى به، ويكون لنا قدوة نقتدي بها في معاملاته مع زوجاته، فكان لا يتردد في بوح حبّه لها أمام الملأ. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنتُ أتعرَّقُ العظم (آخذ اللحم من العرق بأسناني) وأنا حائض، فأعطيه النَّبيَّ، صلى الله عليه وسلم، فيضع فمَه في الموضع الذي فيه وضعتُه، وأشرَب الشَّرابَ فأُناولُه، فيضع فمَه في الموضع الذي كنتُ أشرب منه)، رواه أبو داود وصححه الألباني.

وقالت أيضًا: (كنتُ أغتسل أنا ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، مِن إناءٍ واحد، أبادِرُه ويُبادِرُني، حتى يقول: دعي (اتركي) لي، وأقول أنا: دَعْ لي)، رواه النسائي وصححه الألباني. وكان لا يرى في جهره بحبه لها ضعفًا ولا قلة رجولة كما يراها البعض في وقتنا هذا، فأصبح العشاق لا يخجلون من الجهر بالمعصية، بينما يُحاسبُ المتزوجون ويخافون كلام الناس، إذ يرونه قلة حياء منهم وقلة رجولة، وأن من يفعل ذلك إما ديوث أو سحرته زوجته.

ففي غزوة المريسيع (بني المصطلق) يوقف النبي، صلى الله عليه، وسلم الجيش كله لأن عقدًا لعائشة رضي الله عنها انفرط منها، فهي تجمع حباته من بين الرمال، فقد روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء (موضعٌ بين مكةً والمدينة)، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على التماسه، وأقام الناس معه)، قال ابن رجب: "وهذا السفر الذي سقطت فيه قلادة عائشة، رضي الله عنها، أو عقدها كان في غزوة المريسيع".

تذكّر يا صديقي في الحب لا مكان للكرامة والكبرياء، بل هما سلاحان يفتكان به مهما بلغت قوته، فإن كنت تحب حقًا فلا تُعِر اهتمامًا لكليهما، فالتنازل والتواضع للحبيب لا ينقص من كرامتك شيئًا، فلا تَعُدّ ذلك ذلاً ولا مهانة لك.

وعَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: (أَبُوهَا)، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب)، فَعَدَّ رِجَالًا". رواه البخاري في صحيحه. من هنا نرى أنّ الجهر بالحب ليس عيبًا ولا حرامًا، إنّما الحرام أن تخدعها باسم الحب والإثم هو أن تختارا الطريق الخطأ وتسِيرا به في الحرام فيكون معصية عوض أن يزهر ويتوهج في الحلال.

الحب فعل يُجسد بالميثاق الغليظ، فيحميه الله ويدعمه بدعامة الرضى والمودة والرحمة وتآلف الأرواح، أما ذاك الذي يكون خارج نطاق الزواج فهو فعل حيواني وفاحشة يدعمها الشيطان. والحب ليس شرطًا أن يكون بين شخصين متشابهين، فالنّفس بطبيعتها تميل إلى الاختلاف، وتبحث عن اللاّمألوف عنها لتنجذب له، الحب أن يكمل أحدكما الآخر حتّى وإن إختلفت ميولاتكما وآراؤكما فليس كل من يخالفك الرأي عدوٌ لك.  وفي الختام، تذكّر يا صديقي في الحب لا مكان للكرامة والكبرياء، بل هما سلاحان يفتكان به مهما بلغت قوته، فإن كنت تحب حقًا فلا تُعِر اهتمامًا لكليهما، فالتنازل والتواضع للحبيب لا ينقص من كرامتك شيئًا، فلا تَعُدّ ذلك ذلاً ولا مهانة لك.