بنفسج

يؤرقنا الحنين إليها... تلك الأيام

السبت 01 أكتوبر

أذكر أنني كنت أغسل صحون الغداء على عجل، عندما قال لي: "تعالي اجلسي معنا". فقلت: "عليّ أن أنهي أعمالًا كثيرة؛ فالبيت كما ترى كأنما تفجرت فيه قنبلة". ساد صمت لمدة بعد كلماتي، ثم ما لبث أن قال: "استغلي هذه الأيام معي ومع الأولاد، فوالله ستشتاقين لهذه الأيام، دعك من كل الأعمال التي لا تنتهي واجلسي معنا، ستفتقدين هذه الجمعات واللمات يومًا ما". أذكر أن كلامه قد رنّ في قلبي وعقلي وكياني، ولكن أقصى تفكيري كان في أن الأبناء يومًا ما سيكبرون ويصبح لكل واحد منا أشغاله، هذا مغزى كلماته لا أكثر.

وأظن أنني لم أكترث كثيرًا وقتها بما قال، لأنني استمريت على حالي، فقد كان ترتيب البيت هو مقدمة جدول أعمالي اليومية. دارت رحى الأيام وطرح زماني حصاد لم أكن أرتجيه، وفعلاً اعتُقل زوجي وهدم بيتي، وأصبح بيتنا بلا سند، بلا جمعات ولا لمات. خلال ثماني سنوات أو تسع بعد اعتقاله تذكرت جملته هذه كثيرًا "ستشتاقين لهذه الأيام والله". ربما أكثر جملة تذكرتها مما دار بيننا من حوارات كثيرة لأنني في كثير من الأحيان شعرت حقا أنني أفتقد تلك الجمعة التي لم أكن أراها نعمة ذات أهمية، فقد كنت مثل الكثيرات من الأمهات يسعين للاهتمام بنظافة البيت لدرجة تصل إلى الوسوسة، بل إنني أعتقد أن لدي بشكل أو بآخر وسواسًا قهريًا في النظافة، إذ أريد البيت نظيفًا دائمًا، كأنه لا يوجد عندي طفلين يريدان أن يلعبا. كنت أركض طوال النهار ليبقى البيت كما هو، وكم كنت أتمنى أن يخترعوا شيئًا ما سحريًا يُثبّت كل شيء مكانه كما نضع مثبت الشعر.

أذكر أنني مهما بلغ بي التعب إذا جئت للجلوس بعد يوم طويل من الأعمال الشاقة فوجدت ملاءة الطاولة قد مالت قليلًا ولم تتطابق الزوايا، أقوم بعد كل ذلك التعب، ولا أعطي نفسي فرصة للاستراحة، في سبيل الاهتمام بهذا التفصيل التافه، أقوم فأعدلها، فإذا تأكدت أنها أصبحت متساوية من كل الزوايا جلست باطمئنان مع تنهيدة بالراحة والسعادة، التي كنت أوهم نفسي بأنها سعادة، وأبدأ بمتابعة ما كنت أريد أن أتابعه على التلفاز، كان ينظر إلي ويبتسم ويقول: "مهووسة قد يصل بك هوسك هذا حد الجنون"، فأخبره بأنني لا أستطيع، ليس بيدي، يجب أن يكون كل شيء مكانه حتى أهدأ.

استمر هذا الحال سنوات طويلة، ثم كما سبق وأخبرتكم، عندما جاء ذلك اليوم الذي سجن فيه زوجي، وأخرجوا كل ما في البيت، السجاد النظيف أصبح أسودا، بعدما دخله الجنود ودخله من أراد أن يفرغ البيت من الشباب، رأيت كل قطعة من الأثاث التي كنت أهتم بوجودها بدقة في مكانها، تتناثر هنا وهناك، ورأيت كل شيء كنت أهتم بأن لا يتراكم عليه قليل من الغبار، رأيته ملقى في كل حدب وصوب، في مستودع ما، وفي بيت جيراننا، وبيت أقاربنا، تناثر كله وكأنما هناك قنبلة قد انفجرت فعلًا في المكان، ليس مجازًا كما كنت أخبر زوجي سابقًا، بل في الحقيقة فقد هدموا البيت ولم يتركوا فيه سكنًا.


اقرأ أيضًا: ابنة أسيرة: عن ليلة اعتقال أمي


بعد ستة أشهر استطعت نقل أثاثي إلى منزل جديد، لم يكن منزلي طبعا، كان منزلا لوالدي، بدأت أضع الأثاث شيئًا فشيئًا في البيت الجديد الذي لم أصممه بنفسي، ولم أعتن بتفاصيله بنفسي، لم أختر لون دهانه، ولم أختر موقعه، ولم أختر فيه شيئًا، كان الكثير من الأثاث قد فقد ولونه واتسخ، وربما مزق هنا ومزق هناك، أو خدش هنا وخدش هناك، حتى الأثاث الذي كان جديدًا، بل قمة في الجمال والحداثة قد أصابته خدوش مريرة.

في تلك اللحظة تذكرت كلماته "ستشتاقين لهذه الأيام والله"، وعرفت أن جمعة العائلة ولمتها أهم كثيرًا من كل شيء، أهم من كل هذا الأثاث والنظافة والهوس به، أهم من التعلق بالجمادات التي لا تضر ولا تنفع التي كنت أجعلها أساس يومي ومحوره، فها هو أساسي كله الذي أعطيته كل وقتي وقوتي وصحتي يتناثر هنا وهناك، عندما تأملت أثاثي الرث الذي حاولنا إصلاحه قدر المستطاع، تأكدت أكثر وأكثر بأنني كنت على خطأ.

علمت أن الأهم من جمال البيت وترتيبه، قلوب أبنائنا، قلوب أزواجنا، جمعتنا معهم، وما نحصله في تلك الجلسات العائلية الصغيرة أو الكبيرة، أما أثاث المنزل، بنظافته أو عدمها، ليس مهمًا قدر أهمية تلك المشاعر المقدسة. اليوم لم أعد أتأثر أبدًا إذا ما وجدت بقعة هنا أو بقعة هناك، أو خدشًا ما في أي شيء في المنزل، لم أعد أكترث إذا دخل طفل صغير يجول بيديه ينقلها من مرآة لمرآة ومن قطعة خشبية أو تحفة لأخرى، لم أعد أفكر أبدًا بأن نظافة المنزل ذات أهمية، وأنني يجب في الحال أن أكون كفرقة التدخل السريع ألاحق الأوساخ أطاردها في مكان لآخر.

لا أقول إن بيتي أصبح مستودعًا للغبائر والأتربة، لا، ولكنني اعتدلت، أصبحت وسطية في التعامل مع النظافة والهوس بها، وأصبحت أعطي الأولوية لمن يستحقها، والأولوية للروح لا الجماد، وأعلم أن كلمة يا ليت لا تنفع، لكن حقا يا ليت، يا ليتني كنت أترك كل شيء مدمرًا أثناء لعب أبنائي هنا وهناك، وأجلس وأستمتع معهم، وأشاهدهم يكبرون يضحكون.

لا أقول إن بيتي أصبح مستودعاً للغبائر والأتربة، لا، ولكنني اعتدلت، أصبحت وسطية في التعامل مع النظافة والهوس بها، وأصبحت أعطي الأولوية لمن يستحقها، والأولوية للروح لا الجماد، وأعلم أن كلمة يا ليت لا تنفع، لكن حقا يا ليت، يا ليتني كنت أترك كل شيء مدمراً أثناء لعب أبنائي هنا وهناك، وأجلس وأستمتع معهم، وأشاهدهم يكبرون يضحكون، أطالع جلستنا الصغيرة، أتأملها، وأتأمل وجود زوجي وأبنائي حولي، نشاهد أي شيء على التلفاز، فإنني وبكل شفافية، افتقدت ذلك كثيرًا منذ أن سُجن زوجي وهُدم بيتي.

بل وأنني أصبحت أعتقد معتقدًا جديدًا بأننا سنحاسب على أجسادنا التي ننهكها في التنظيف وفي الأعمال الشاقة، فإذا ما وصلنا بداية الـ 40 من العمر أصابتنا أمراض كثيرة منوعة نحن النساء، ثم نتساءل لماذا حصل هذا لأجسادنا؟ سنحاسب لأن هذه الأجساد أعطانا الله إياها لنحافظ عليها، فنأكل أكلًا صحيًا ونتداوى إذا مرضنا، ونرتاح إذا تعبنا، ولكننا لا نرحم أنفسنا أبدًا في موضوع النظافة، وترتيب البيت، والمثالية المفرطة التي لا منطق فيها، أصبحت أنظر للموضوع تمامًا كمن اعتاد التدخين فيهلك رئتيه، ونحن نهلك عظامنا ونذيبهم في هذه الأعمال الشاقة يوميًا، فيسبب التدخين السرطان، ويسبب وساس النظافة الروماتيزم والسرطان والهشاشة وما لا ينتهي من الألم!