بنفسج

قطاف غربتي

الأربعاء 13 ابريل

ذَلك التَوقيت الذي لَن يَغيب عَن ذِهنك أبدًا وَلن تَقوى عَلى نسيانه، بذلك التوقيت، لا تَتبدل وَتختلط مَشاعِركَ فَحسب، بَل تتغير هويتك أيضًا، من اللحظة التي تَحزم بها أمتعتك وتودع فِيها بَيتك ووطنك، من آخر دمعةٍ يَسكبها قَلبك، مِن اللحظة التي يَنشطر فيها ويترك نصفه الآخر بين أهلك وأحبابك، ذَلك التوقيت الذي تَكتبُ بِه عَلى نفسك الغُربة، ذلك التوقيت الذي تَدق بِه ساعة التضحية بكل ما عشقته روحك، فَما الغُربةُ إلا تَضحيةٌ بِما تُحب لِتحققَ مَا تُحب، هي هكذا تَنافسٌ بين ما تعشقه روحك، وإذا ما ابتعدت عنه أُدميت، وما بَين حُلمٌ تزدهر به حياتك وُيرفع اسمك به عاليًا، حُلمٌ يَقر به عيني والديك بِه، وَهُنا يَطيب أيُّ وَجعٍ وَألم إذا كان سعادة ورضا والديَّ به.

دعنّي أقول أنّك مِن تِلكَ اللحظة سَتدخلُ مَدرسة جديدة من مدارس الحَياة، مِعطاءةٌ لِمن أَحبها بِصدق، واهتم بها ومن أن يَنهل من علومها، والأهم من ذلك كله أنها اختبار لكل ما آمنت به نفسك هي مفترق طرق تتيح لك الخير والشر على حدٍ سواء، وَأنت من تحدد؛ هل تُكمل المَسير بما عاهدت به نَفسك وعلى الخير؟ أم تحيد عن كل ما آمنت به وتضل عن النور؟

الغربةُ بستان يطول القطاف مِنه، بستان هُنّا، ليس لِجمال المَواقف التي سَتمر بها، أو لحلاوتها، بل لعددها، لُمّرها وَحلّوها، وثلاث سنوات ونصف عشتها في مدرسة الغُربة، كَانت كَفيلة لأن تعلمني مالم أتعلمه وأنا بين أحضان عائلتي وما زلت أَتعلم مِنها، كانت تقسو عليَّ أحيانًا بل كثيرًا، وأحيانًا أخرى تَحنو عليَّ، من بستانها قَطفتُ الكَثير، وأنا هنا أَروي لَكم عَن بعض ثِمارها.

فِي الغُربةِ إِدراك لَكلَّ ثانيةِ جَمعتك مَع أَهلك، مِن اللحظة الأُولى التي تُودع بها أحبابك وَتقرر الرحيل، مِن هذه اللحظة يَبدأ قَلبك بالشوق والحنين بإدراك كلَ ثانية قضيتها مع أَهلك وَأصحابك، مع كل يَوم تدرك عِظمَ وُجودِ مَن تُحب حَولك، أو دَعني أَقول قِيمتهم فِي حَياتك، فنحن هَكذا، لا نَشعر بقيمة الشيء حتى نفقده، أو أن نبتعد عنه.

وَهنا هَمستي الأولى، لا تَنتظروا البُعد عن مَن تحبون لِكي تَشعروا بقيمتهم، بل أغدقوا عليهم بالكثير من الحُب، أَعطوا من قلوبكم وَتفانوا بحبهم، أكثروا من الذكريات الجميلة التي تَجمعكم مَعهم، فَهي أَنيسكم فَي وِحدتِكم. في غُربتك سَتقترب مِن الله أَكثر، رُوحك ظَمأى لِمن يَستمع لها، من تَطمئن لقربها مِنه، تَسْكن جَوارحها وَهي إلى جانبه، مَن يَكن الضعف أمامه قُوة، روحك ستكون بحاجةٍ إليه كثيرًا، بحاجة إلى الاطمئنان المُنْبعث من قُربه، قلبك وندباته بحاجةٍ إلى من يداويها.

في الغربة ستكثر انكساراتك والله خَير جابر، سيكثر حزنك والله خَير من يواسي، سَيكثر سعيّك والله خَير من يَرى وَيُبصر وَيُجازي وَيُكرم، ستكثر شكواك والله خير مستمع. وهنا همستي الثانية: كُنْ مِنه قَريبًا، وَلا تَخرج من سِنين غربتك إلا وأنت أكثر قربًا، تهبط أَنت في سُجودك وروحك تَعلو بقربك مِنه، تَزداد ضياءً وبهاء وجمالًا، وهل أجمل من أن يكون الله في قلبك.

في غُربتك من هو شَقيق روحك، لا أُبالغ إِن قُلت أَنَّ حَلاوتها أو مَرارتَها مُرتبط بمن هو توأم قلبك، وأنيس غربتك، فقد تجرع من العَلقم الكَثير، والسبب أنيس موحشٌ قربه، والقلبُ مثقلٌ بجانبهِ، وعند المَواقف تجد كل وعوده وكلامه المنمق وَالجَميل أضحى سرابًا. وعلى العكس تمامًا، فقد تجرع من العسل الكثير، لقربك من أنيسِ شابه العسل في جماله وبقلبه وَطيبته، بمواقفه وَوعوده، بحديثه، بِاحتوائهِ لأوجاعك وانكساراتك، احتواءً صادقًا؛ لا غبن وَلا حقد ولا مكرٍ فيه، فقد يُحسن التَمثيل من يُعدُّ لخذلانك.

صديق غربتك مختلف عن كلِّ مَن صَاحبتهم رُوحك، أو دعني أقول إن قيمته أصبحت أعظم وأهم، لأنَه هو الأنيس الوحيد لِروحك، من ستقاسمه أوجاعك قبل طَعامك، من ستضحك وتبكي معه، من ستعطي له مفاتيح أسرارك، والكثير من الأمور التي أظنّها قَد لا تُوجد مَع صديقٍ وُأنت بين أَهلك. وهنا هَمستي الثالثة، أَحسن المكيال، واختر بعنايةٍ من تُعاشره روحك وتتقسم معه أوجاعك وَبيتك، لا بأس، خذ وقتك بمن تُوْقع عليه الاختيار أن يكون أنيس غُربتك.

في الغربة أنت الأب والأم لنفسكَ وَلِبيتك، تَأخذ دَور الأب تَارةً، وَالأم تَارة أٌخرى، أنت من سَيجلب الطعام وأنت من سَيُعده، أَنت من سَيغسل وينظف ويرتب ويهتم بشؤونه، والأمر الوحيد الذي لا شَأن لَك بِه هو مصروفك الشهري، فهذا مِن والديك. ستدرك تمامًا معنى أن تَكون أب وأم، ستشعر بتعب والدتك ووالدك، ستعطيك الغربة درسًا يما يَفعله ويقدمهُ وَالديّك لَك ومن أجلك، سَتُحدثك كثيرًا عن تعبهم. وهنا همستي الرابعة، تَأكد بِأنّ أهلك أَكثر مَنْ يُضحي وَيتعب من أجلك فقدّر ذَلك، وَكُن لهم خير ابن، اجتهد كثيرًا لكي تكون عند حسن ظنّهم وعلى مقدار تعبهم فَهم يَستحقون مِنك الكَثير، أن تكون اسمًا يفتخرون بِه.

وأما عن الفَرح بِالغُربةِ، فَهو مَجبولٌ بِبعض مِن الحُزن، والفرحة هنا تلك التي تَتولد بَعيدة عَنك، بَين أَحضان أَهلك ومن أحبهم قَلبك، بالتأكيد ستفرح لِفرحهم، ولكن سيبقى في قلبك حسرة وَحزن أنك لا تشاركهم فرحتهم، يتزوج أخاك أو تتخرج أختك، والكثير من الأفراح التي تَكتفي بَأن تهنئهم إما بِاتصال أو على حَائطك على مواقع التواصل، سَيحمل هاتفك الكثير من التهاني. ولكن هذه هي ضريبة الحلم، للهدف الذي تغربت من أجله، وهذا هو سِلوانك الوحيد.

ستتقلب أحوالك كثيرًا، تَعيش بَيّن حُلّوها وَمرها، ولا أقصد أن الحال لا يتقلب إلا في الغربة فهذه هي سُنة الكون، ولكن هي هكذا الروح تفرح أكثر بقرب من تُحب، ويزيد حزنها ببعد من يسمع لأنينها وأوجاعها، لمن يعطف عليها بحنانهِ. سيزورك الحزن كعادته، ولكن بَالغربة أشدّ إيلامًا، فلن تجد حضن والدتك الدافئ تبكي فيه كطفلٍ صغير، ستتعطش روحك كثيرًا لمن كان يسمع لشكواها ويطيب خاطرها، الحزن هنا سَتعيشهُ وَحدك، لن يكون بإمكانك أَن تُظهر ضَعفك وَحزنك أمام أهلك وأحبابك، تلملم شتات نفسك لِتظهر أَكثر قُوة، سَتكتم حزنك وتخبأه عنهم حتى لا يصبح حزنك بينهم، كي لا تقلق قلوبهم على من أحبتهم.

لحظات الفرح ستعيشها، ولا أظن أن فِيها اختلافًا كَبيرًا، أكنت وحدك أو ما بين أهلك، فلحظات الفرح لا أحد في الكون لا يُحب أن يشاركها من يحب، نعم، ليست كتلك الفرحة وأنت بين أهلك وأحبابك لكنَك حتمًا ستُشاركهم إياها ولن تُداريها عَنهم، وَلكن تَرجحُ الكَفةُ لِتلكً اللحظات التي لا تَقوى فِيها روحك إلا أن تهبط في سجودها، وتشكو إلى الله بثّها وَحزنها.

ولا أدري بما أقول هنا كهمسة مُحب، وَلكن عِش لَحظات فرحك بكاملها، احترم توقيتها وَموعدها، وافتح لَها قَلبك، وأما عَن لَحظاتِ حُزنك، عشها، ولكن لا تبالغ فِيها، إذا وجدت من تشكوا إليه، فاذهب، وتذكر أن في السماء من يسمع أنينك وآلامك، من تستريح نفسك إذا ما نادته.

وأما عن أكثر الدروس قَسوةً، وَالتي لا أَظن أنّك سِتتذوق مراراتها إلا في الغربة، أَنّك سَتُعرْف الخَذلان بِمهارة، وهذا مردّه أنّك ستتذوق منه حتمًا، بل وأشد فَتكًا بِك من غيره، ولا أعني هُنا أنه لا خذلان إلا في الغربة، لا، فقط لأنه أشد إيلامًا، روحك هنا وحيدة تعشمت وتعمقت بمن أحبتهم، ولكن حلَّ الخريف باكرًا على قلبك، فأسقطهم، مَنبعُ الألم هُنا أنّك تَعمقت، وَغصت كثيرًا بِعلاقتك مع من خذلك، أو دعني أَقول من أعطيتهم روحك ولم تبخل بيوم عليهم فيما تُحب أن يَعود لَك، يكتب على المرء أحيانًا أن يذوق القسوة ممن أعطاهم قَلبه وَحياته، وهمستي الخَامسة هنا لا تتعشم كثيرًا بِمن أَحبه قَلبك، لا أَقول أن تَفقد الثَقة وتبقى دائم التفكير في علاقتك مع من أحببت، لكن ضع ذلك فِي حسبانك فقط، لعلَّ الخذلان وَإن حَصل يَكنْ أقل إيلامًا.

وأما عن أشد القطاف حبًا وقربًا إلى قلبي، أن تكون ذا أثرٍ طيب وجميل، مِن أَجمل الأُمور التي سَتعيشها في غربتك وما بَين أَقرانك وَزملائك أن تكون ذا سمعةٍ طيبة، إذا مرّ طيفك ذَكرك غيرك بالخير، بالكثير من الحب، في الغربة أنت صورة عن أهلك، تمثلهم وتحكي لغيرك بأفعالك من الذين رَبوك.

فهمستي السادسة هنا والتي لا أَملُ مِن تِكرارها كُن ذَا أثرٍ طَيّب، ذَو روحٍ جَميلة أينما تَحل تُزهر، كن سَفيرًا رائعًا جميلًا لأهلك، كن حبيبًا وصديقًا وطيبًا مع كل من تقابلهم رُوحك، سيخذلك بعضهم ويخون قلبك وطيبته لكن لا بأس، يكفي أنك كنت الجزء الجميل من كل القصة، يكفي أنك لم تؤذ أَحد، فلا شيء أجمل من أن تغادر هذا الحياة ولك ذكرى جَميلةٍ فِي حياة أحدهم يذكرك بالخير وَيدعو لك.

يَطول القِطاف مِن بُستان الغُربة، وبالحديث عَن مَا عِشته وشاهدته من قسوة الأَيام وحلّوها، عَن مَا تَحديت بِه نَفسك، عَن قُوتك وَضُعفك، عَن حُزنك وَفرحك، عن كل اللحظات التي ما كنت لتعيشها إلا وأنت في غربتك. وإن أردت تعريف الغربة، فسأقول هِي التَعريف الكَامل لِكل أمرٍ في حِياتك، ستدرك قيمة كل فردٍ وشعور، ستقترب أكثر ممن تحبهم، ستنضج بما فيه الكفاية لأن تكون أكثر حبًا واهتمامًا بمن تُحب، أعظم أثرًا.

الغربة سَتعطيكُ الكَثير الكَثير، لكنّ كُل مَا عَليك أنْ تَفتح لَها قَلبك، ولكن ليس عَلى مِصراعيّه، أن تَكون حارسًا ذكيًا تَسمحُ فقط بمرور كُل مَا يصب في نفسك بشكل إيجابي، بِالشكل الذي تُحب أَن تَرى بِه نَفسك وكما يُحب أهلك، واعلم هذا، بأن اللحظات التي ستعلمك كثيرًا وتصقلك هي تلك التي يحزن فيها قلبك وتكثر به نَدباته، بتلك اللحظات التي تتحمل وتتحدى بها نفسك. الغربة إما أن تُزهر ويعلو بِها شَأنك، وإما أَن تَذبل وَتهبط ويختفي فيها بريقك، وأنت من تقرر.