بنفسج

لعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا

الأحد 17 يناير

(لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)؛ آيةٌ لطالما ترددت على مسامعنا، وكثيرًا ما اعتاد لساننا على النطق بها بعد كل همٍّ، أو أمرٍ منغّص يمرّ بنا، لكننا في غالب الأمر ننسى أنها تنطبق على كل أمور حياتنا الجميلة والقبيحة والجيّدة والسيّئة، والبيضاء والسوداء على حدٍّ سواء.

كنت في كلّ مرة أقارع بها الحياة، وترميني أحداثها بين طيّات الحزن على غفلة مني، أعزّي نفسي بترديدها، وأواسي قلبي بأنه سيحدث بعد كل هذا ما هو خير، أَوَليس الله عند حسن ظن عبده به؟ّ! كنت دومًا أُذكّر نفسي والآخرين بأن ما عند الله خير وأبقى، مهما اشتدت الأيام علينا ومهما قاسينا بها من فراق أحبّة، وتكسّر مجاديف، وتبخّر أحلام، وموت آمال، لابد أن الله سيحدث بعد كل ذلك أمرًا.

حتى صادفني الفرح على حين غرّة، وشعرت حينها أنّني قد وصلت لوجهتي، ورسيت على مرسى السلام أخيرًا، أنّ ثقتي بالله التي كنت دومًا أتسلّح بها ها قد آتت أكُلُها، وها قد باءت نتائجها وشيكة وقريبة مني، وتجري داخلي مجرى الدم في الوريد.

حينها غمرت السعادة قلبي مرة واحدة، صعدت فيها إلى أعالي السماء كطير يحلّق لأوّل مرّة وهو يعلم أنّ لمسه للغيوم لم يكن سهل المنال، بل هو حصيلة طول انتظار وليالٍ طال ظلامها من الدعاء والصبر والدمع حينًا، والمقاومة أحيانًا كثيرة، كي لا أفقد آخر ذرات الأمل التي كانت تغذّي قلبي بين حينٍ وحينْ.

ولكن ككلّ أمرٍ في حياتنا المتقلّبة، ككلّ شيءٍ نلاقيه ثمّ لا ننفك أن نفارقه، كان ذلك الفرح مؤقتًا وسريعًا جدًا. في الحقيقة، لا أدري إن كان سريعًا حقًا، أم أنني قد بالغت بنشوتي وشعوري بالانتصار الذي لازمني، فلم أعدّ الليالي - كما كنت أفعل في حزني - طويلة.

لكنّه في نهاية المطاف كان قد مرّ خفيفًا سريعًا، تاركًا إيّاي منتشية بين ثنايا الوهم الذي سطّره أمامي على أنه حقيقة، لأستيقظ ذات صباحٍ من الصباحات الغائمة على صوت نحيب قلبي وصرير فكّي كما لو أنني لم أفرح يومًا. أذكر أنني جلست حينها أحاسب نفسي وألومها، معاتبة؛ أما كان عليّ أن أعيش الفرح بتوازن كما اعتدت أن أعيش حزني بتواضع واستسلام؟!

كانت اللحظات الفارقة تلك، وهي ما أسمّيها الآن "بنقاط تحوّل" أساسية في حياتنا، قد أدمت الفؤاد، وكحّلت جفناي، وبعثرت مفاهيم الصبر والرضا في داخلي وحتى مفاهيم الإيمان، كما لو أنّني أتعرّف على روحيّات الكون من جديد، كما لو أنّني لم أصادفها سابقًا قط.

أما كان عليّ أن أنتظر قليلاً قبل أن أرفع راية الانتصار والسلام؟! لقد كان شوق روحي لمشاعر الفرح قد طغى على ذبذبات عقلي الحكيمة الدّاعية دومًا إلى الاعتدال في كل أمر، لقد سيطرت في لحظات شجون كل تلك المشاعر على كينونتي فأعمت عيناي عن رؤية ما خلف الستار.

فكنت ذاك الطير الذي حلّق بعيدًا، ولم يستمع لوصية أمّه التي أخبرته أن جناحيه مازالا ضعيفين ولا يمكنهما التحليق طويلًا، فسقط من أعالي السّحاب إلى هاوية الأرض محطّمًا، فاقدًا بوصلته، وفاقدًا حتى القدرة على المشي كما كان يفعل قبل أن يطير.

مرّ الوقت طويلًا وبائسًا ومميتًا، كانت اللحظات الفارقة تلك، وهي ما أسمّيها الآن "بنقاط تحوّل" أساسية في حياتنا، قد أدمت الفؤاد، وكحّلت جفناي، وبعثرت مفاهيم الصبر والرضا في داخلي وحتى مفاهيم الإيمان، كما لو أنّني أتعرّف على روحيّات الكون من جديد، كما لو أنّني لم أصادفها سابقًا قط.

وهآنذا أعود لأقوّي نفسي بأسلحتي الماضية الماضية، وأشحن طاقاتي متجمّعة بعد كل ما مرّ بي من خيبات، لأقولها مؤمنة بها، ومتشبثة بمعانيها بكل ثقة ورضى وامتنان (لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرًا).

إلا أنني عدت اليوم ألملم بقايا روحي المبتورة بعد ذلك السقوط الأخير، عدت أذكّر نفسي وإياّكم بأننا نعيش في حلم طويل لا يدوم به شيء سواء أكان فرحًا أم حزنًا، وأننا جميعنًا وبلا استثناء وبكل ما نملكه وما لا نملك إلى زوال، وهي ليست نظرة سوداوية كئيبة بقدر ما هي نظرة واقعية علينا أن نداوم تلقينها لأنفسنا كي لا تتحطم أرواحنا عند كل هاوية.

وهذا ما قاله سيدنا جبريل – عليه السلام - لسيد الخلق سيدنا محمد – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - : "يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي عليه، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزّه استغناؤه عن الناس".

وهآنذا أعود لأقوّي نفسي بأسلحتي الماضية الماضية، وأشحن طاقاتي متجمّعة بعد كل ما مرّ بي من خيبات، لأقولها مؤمنة بها، ومتشبثة بمعانيها بكل ثقة ورضى وامتنان (لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرًا).