بنفسج

بيت مهدوم وذاكرة: فتات النفس بين الركام

الأحد 16 نوفمبر

قصف البيوت في غزة
قصف البيوت في غزة

البيت ليس مجرد جدران وأسقف، بل هو ملاذ للروح، رمز للأمان والاستقرار، ومرآة لكل الذكريات التي تشكل هوية الإنسان. عندما ينهدم البيت، تنهدم معه قطعة من النفس، ويترك فراغًا روحيًا يصعب ملؤه. وهنا في هذا التقرير سألنا الذين فقدوا بيوتهم عن الشعور لحظة الهدم وفقدان البيت ومسكن الذكريات. 

عن لحظة الهدم

سرقة بيوت حي سلوان.jpg

الوجع واحد… من أول يوم للنزوح لليوم!" هذا ما قاله مالك جمال، شاب من مخيم نور شمس، واحد من آلاف النازحين الذين اضطروا لترك بيوتهم تحت وطأة الاحتـ.ـلال، وانتقل مع عائلته إلى منطقة اكتبا حاملًا معه حنين الفقد وثقل هدم البيت. يقول مالك: "شعور أول يوم هو شعور اليوم منذ فقد البيت، أشتاق للمخيم والجيران، ومع اقتراب فصل الشتاء يزداد الوضع سواء أكثر وأكثر، ولم نخرج من البيت ملابسنا الشتوية، وكذلك كل أهل المخيم، ولا أحد يعلم عنا، كثير من الناس ليسوا على علم بتهجير أهل المخيمات الفلسطينية..".

"مش قادرة أتركه وأطلع" هذا ما قالته الحاجة أم زهير الرجبي قبل إخلاء منزلها اليوم الذي سكنته ل50 عامًا لصالح المستوطنين..الحاجة أم  زهير نقلت للمستشفى صباحًا من شدة تأثير الصدمة عليها، لم يهدم بيتها ولكنه صودر وفقدته معه كل شيء فخرجت منه محمولة باكية. 


اقرأ أيضًا: نساء من رماد الذاكرة: حين تنجو الأجساد ولا ينجو القلب


حتى بعد أن صار البيت مجرد أطلال، لا تزال الذكريات تسكن ساكنيها. كل لحظة عائلية، وكل لقاء، وكل مناسبة، محفورة في الذاكرة، تقول أمل فراني التي هُدم بيتها في حي الشيخ رضوان  في منطقة أبو إسكندر: "ليس هناك أجمل من البيت ودفء البيت.. جميع التفاصيل التي عشتها في منزلنا لا تُمحى من الذاكرة، اللحظات العائلية الحلوة والمرة، اللقاءات في المناسبات والأعياد، موائد الطعام الرمضانية، أول حفلات النجاح والزواج، استقبال أول حفيد… كل هذه التفاصيل بقيت محفورة في قلبي قبل جدران المنزل."

البيت... ذاكرة الإنسان

النزوح من مخيم جنين.jpg

لكن غياب البيت يترك فراغًا لا يزول، شعور بفقدان جزء من النفس وكأنك مشتت بين الماضي والحاضر. تقول أمل عند سؤالنا إياها لحظة فقدان البين وهدمه: "كانت كخروج الروح، ينتابك شعور بالضياع والتيه وفقدان البوصلة، شعور بالانكسار والعجز وبداية التشرد، تشعر وكأنك تريد أن تبدأ بشيء لا تدري ماهي نقطة انطلاقه وما وجهتك." حتى بعد مرور الزمن، تبقى الذكريات حية، وتظهر في أحاديثه اليومية: "دائمًا ما ينتابني شعور أنني ما زلت هناك… حتى أن جملة 'لو كنا في منزلنا لفعلنا كذا وكذا' أصبحت لا تفارق لساني وكأنني لازلت أعيش هناك."

كل زاوية في البيت كانت تحمل قصة وذكريات، لكن أكثر ما يفتقده هو غرفته الخاصة، ملاذه للهدوء والأنس: "كل ركن في المنزل يحمل ذكرياته الخاصة، لكن أكثر مكان أفتقده بشدة هو غرفتي، كانت تمثل لي الهدوء والأنس والأمان بعد يوم طويل وشاق. أفتقدها بشدة وأفتقد أصغر وأدق التفاصيل فيها، كل ذكرياتي المادية والمعنوية ذهبت تحت الركام وأصبحت أثرًا بعد عين."

الوقوف أمام الركام لأول مرة كان صدمة لا تُنسى: "صدمة وذهول لهول ما رأيت، بكيت المنزل حينما تلقيت الخبر ودمعتي لم تفارقني، كنت أخفيها عن والدتي كي لا ترى ضعفي وتنهار. بكيت حيًا كاملًا بشوارعه وبناياته ومساجده وكل معالمه، فقد تحول الحي إلى منطقة منكوبة بكل معنى الكلمة."

عن الأشياء المتروكة

أمل الفراني النزوح من غزة.jpg

حتى الأشياء المادية الصغيرة، التي كان لها قيمة خاصة، اختفت مع الركام، تاركة شعورًا بالحزن العميق: "للأسف لم أستطع أن أنقذ أي شيء… أكثر ما أحزن لرؤيته هو بقايا أوراق بحث تخرجي، وأوراق ممزقة من كتب والدي القيمة التي احتفظ بها منذ أن كان طالبًا، واستمرت معنا حتى بعد وفاته."

غياب البيت أثر بشكل مباشر على شعور الاستقرار، فحتى أبسط أشكال الأمان تبددت: "أحسست بفقدان الاستقرار منذ لحظة نزوحنا الأخيرة، شعرت أن النهاية قد حلت بالفعل… البيت هو السكن والاستقرار والحياة الهانئة الهادئة، وفقده فقدت جميعها." رغم الألم والفقد، يبقى الأمل حاضرًا في فكرة إعادة البناء، التي تمثل محاولة لاستعادة الحياة والمقاومة: "كنت أفضل الانتقال إلى منطقة جديدة، حياة جديدة وجيران وأصدقاء جدد، لكن الآن أتمنى أن يُعاد بناء المنزل في نفس الحي، ونفس الشارع، وأن يسكنه نفس الأشخاص والجيران الذين أحب، وأن تُعاد لنا الذكريات إن أمكن."

البيت، حتى بعد رحيله، يظل حيًا في الروح: "المنزل رحل صحيح، لكنه روح يُنعى كما ينعى الأشخاص، أشعر وكأني أحمل روحًا أخرى داخل روحي، روح لا تزال حية تحمل تفاصيل فرح وحزن التصقت في جدران هذا المنزل، اختلطت به أرواح من عاشوا فيه وزاروه، فصعبت إزالتهم رغم تدميره." على الركام يمكن أن يُبنى بيت جديد، لكنه سيكون دائمًا مشبعًا بالذاكرة القديمة: "بيت جديد بذاكرة قديمة لن تموت… حتى لو انهار المكان، الذكريات تبقى، وتحمل معنا الروح الحقيقية للبيت، ما عاشره ساكنوه وما حملوه من حياة وفرح وحزن."

ذكريات البيت

هدم البيت في غزة.jpg

أشتاق جدًا لكل ذكرى في البيت لطقوسي اليومية، أكثر ما اشتاقه هو سريري والوسادة، كل ما أوده الآن جلسه عليه مع كوب النسكافيه المفضل، أحيانًا أشعر أنني لا أصدق أن البيت راح فعلًا، شعور غريب لا أفهمه، لم أذهب لأرى ركام البيت رأيته بالصور لكن لا أصدق أني لم أشهد صباح العيد في بيتنا.. أشعر بالاغتراب منذ فراق البيت..

تقول منى سلامة التي هدم بيتها في جباليا: "مشاهد البيت المهدم هو الفراغ الروحي لا يزول حتى الممات، يبقى جزءًا ناقصًا فيكِ للأبد.. تشعر بأنك فاقد لشي منك.. أتمنى دائمًا أن أكون في حلم وسينتهي الآن وأعود للنقطة التي توقفت الحياة بها. لم أزر البيت، رأيته بالفيديو والآن هو صار ضمن المناطق الخطرة الذي يتمركز الجيش بالقرب منه.. لكن ليست لدي الجرأة أن أقف أمامه يعز علي رؤية بيت طفولتي على الأرض هكذا..

منذ عامين لم أشعر بشعور الاستقرار ومنذ ذهب البيت أشعر أني ودعت شعور الاستقرار للأبد حتى لو سكنت بأفضل الأمكان وأعيد بناء البيت، سيبقى هناك شيء مفقود. وذكرياته بقيت ولن تزول ولكني أخاف أن تخونني الذاكرة فأنساه.