أمضيت ليلة من أسوأ ليالي عمري في زنزانة شديدة القذارة في سجن الشارون، معزولة بالكامل عن العالم الخارجي، حتى جدرانها، كانت عازلة للصوت.. مضاءة طوال الوقت بضوء أصفر ساطع مزعج يبعث على التوتر والقلق.. لم تغدرني مخاوفي ولو للحظة.. فالمجهول الذي أهوي في غياهبه بين أعداء يتربصون بنا كشعب وبي شخصيًا كمخربة وإرهابية لا بد من تأديبها ووضع حد لها، يربكني ويزعزع ثقتي بنفسي ويرفع من مؤشر خوفي لأعلى درجة.
قدَّرت أن النهار قد تفتح حين فتح السجان قفل الزنزانة وأمرني بالوقوف والتقدم.. لم يكن سجانًا واحدًا، بل مجموعة، وقف في مقدمتهم من يحمل كمية هائلة من مفاتيح ضخمة مجموعة في سلسلة، كل منها يشبه شاكوشًا ولكن برأس مسنن، وإلى جانبه وقف آخر يحمل كلبشات معدنية ويترك حلقاتها ترتطم ببعض وتُصدر رنينًا مزعجًا إمعانًا في ضغطي نفسيًا.
برغم الآلام التي تلتهم مفاصلي والضعف الناتج عن ارتفاع حرارتي وعدم تناولي أي طعام منذ وقت طويل تحاملت على نفسي ووقفت وتقدمت بحذر.. قيد السجان يدي ورجلي وحرص على شد الكلبشات بقوة، وسحبني منها عبر ممر طويل.. أدخلني في زنزانة أخرى وأعاد قفل الباب. كنت مضطربة، لا أدري ما يحدث، لا أجرؤ على سؤال السجان، ولا أظنني أثق بإجابته إن أجابني.. لأول مرة أكون في حال كهذه، بين أناس أعداء غرباء، الشك وانعدام الثقة والتوجس هو الرابط الوحيد الذي يربطني بهم.
ألقيت بجسدي المنهك على المقعد الإسمنتي شديد البرودة في زاوية الزنزانة، أطلت النظر في جدرانها وأرضيتها شديدة القذارة، بقع من الدم الداكن التي مر عليها وقت من الزمن تنتشر على الجدران والأرض، داهمتني صور وتخيلات لحال الأسير الفلسطيني الذي سبقني إليها نازفًا، هل ترك التعذيب أثناء التحقيق جروحًا في جسده ظلت تنزف وتركت شهادتها على جدران هذه الزنزانة؟
أم أنه أُصيب برصاصة غارت داخل لحمه؟؟ هل اخترقت عظمه؟ هل كان يتألم بشدة؟ هل هو شاب أم كهل أم ما زال طفلًا؟ هل قدموا له العلاج أم تركوه على حاله إمعانًا في تعذيبه؟؟ كثير من الأفكار عبثت برأسي وبقيت معلقة دون إجابات.. ماء المطر كان يندلق داخل الزنزانة من أسفل الباب ويتجمع في منتصفها مشكلًا ما يشبه البركة ويزيدها برودة إلى برودتها.. وأنا أجلس في إحدى زواياها يرتجف جسدي وتصطك أسناني بردًا.
اقرأ أيضًا: في سجن الشارون: المعبر نحو المجهول
كانت السجانة تستجمع قبضتها وتضربني على رأسي من الخلف، وعلى ظهري ورقبتي وكتفي.. حاولت تحاشي ضرباتها، ولكن القيود المشدودة في يدي ورجلي حالت دون ذلك.. مشى السجان، واقتادني وظلت تسير ورائي؛ تضربني.. وتصرخ بي آمرة أن أخفض رأسي دون أن أصدع لأوامرها، واحتفظت برأسي مرفوعًا للأعلى.. وعلى بداية ممر من الدرج، ضربتني على رأسي بعنف ضربة أخلت بتوازني، ولولا لطف الله لوقعت وانزلقت عن الدرج..
ندت مني نظرة إلى السماء، كانت سوداء غائمة، تذرف دمعها الحزين بصمت.. شاهدت سربًا من الغربان يعبر السماء.. نعيبها ملأ الآفاق.. لا أدري إن كانت تبكي شعبي المكلوم أم تتآزر معي وتواسيني.. سرعان ما رحلت واختفت عن ناظري.
في نهاية الممر فُتح الباب من الداخل، وتسلمني شخص يرتدي بدلة عسكرية رمادية اللون، قرأت على سترته الكلمة العبرية" نحشون" (وهي الفرقة الخاصة المسؤولة عن نقل الأسرى من مكان إلى آخر خارج السجن)، فتشوني، واستبدلوا الكلبشات، وتسلموا ملفي ودققوا في اسمي وصورتي وهويتي.. واقتادوني إلى بوابة معدنية زرقاء واسعة تحيط بها الأسلاك الشائكة من الجانبين فوق الأسوار العالية.
أدركت أنني في طريقي إلى مكان آخر.. لا أدري أين سيكون. ندت مني نظرة إلى السماء، كانت سوداء غائمة، تذرف دمعها الحزين بصمت.. شاهدت سربًا من الغربان يعبر السماء.. نعيبها ملأ الآفاق.. لا أدري إن كانت تبكي شعبي المكلوم أم تتآزر معي وتواسيني.. سرعان ما رحلت واختفت عن ناظري.
سحبني أحدهم بغلظة إلى بوسطة كانت تقف على ممر اسمنتي أمام بوابة السجن، صعدت إليها بصعوبة، أجلسوني على مقعد معدني شديد البرودة، في شيء يشبه الزنزانة، صغيرة جدًا مساحتها بمساحة المقعد تتسع لشخص واحد فقط، وأمام المقعد عدة سنتمترات لأضع أقدامي فيها في الأسفل على أرضيتها. أغلقوا الباب وأحكموا قفله من الخارج.. وجلست أنتظر بتوجس لعل الأوقات القادمة تخبرني بالمزيد عما أنا قادمة عليه!!

