لا أدري أين أنا، لا أعرف أحدًا.. الجميع هنا غرباء، أعداء، عنيفون، يبرق الحقد في عيونهم بلا خجل أو وجل. كنت جائعة جدًا، يومٌ ونصف لم أتناول خلالهما شيئًا، عطشى، منهكة، كل أنحاء جسدي تؤلمني بشدة، البرد يطبق فكيه على مفاصلي وعظامي ويزيدها ألمًا إلى ألمها. متوترة، منكمشة على ذاتي، رغم ذلك لم أنتبه كثيرًا لنفسي، بل حاز على انتباهي أناسٌ آخرون؛ أهل غزتنا، وعائلتي.
كم من شهيدٍ ارتقى هذا اليوم؟ كم من جريحٍ لم يستطيعوا الوصول إليه بين الأنقاض؟ كم من طفلٍ قضى تحت القصف؟ كم من امرأةٍ احترقت؟ هل خرج المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة وأعطى التقرير اليومي عن الأوضاع الصحية هناك؟ هل دخلت المساعدات؟ أم أن المسؤولين في مصر ما يزالون يتشددون بشأن معبر رفح ويرفضون إدخال المساعدات وإخراج الجرحى والمرضى للعلاج؟ كيف يعيش الناس هناك في ظل هذا البرد الشديد والمطر المستمر؟ هل تحجب الخيمة مطرًا أو تخفف من حدة البرد؟ كيف حال المشافي؟ هل توقفت أخرى عن العمل؟... إلخ.
وأسرتي أيضًا لم تغادر تفكيري لحظة؛ ماذا فعل أبنائي؟ هل آذوا أحدهم؟ هل ضربوا عبد الرحمن أو أذلوه بعد اعتقالي؟ هل سرقوا شيئًا من البيت؟ هل حطموا محتوياته كما يفعلون دائمًا؟ وماذا فعل زوجي؟ هل استطاع تحمّل وجع وقهر أن تُعتقل زوجته من أمامه في هزيع الليل دون أن يستطيع فعل شيء أو حمايتها منهم؟ كيف هو الآن؟ هل علم أهلي بخبر اعتقالي؟ كيف تقبّلوا الخبر؟ هل سيتقبل المجتمع من حولي ذلك؟ هل سيمارسون ضغطًا على زوجي وأبنائي؟ خاصةً وأن اعتقال المرأة ما يزال أمرًا غير مستساغ.
أعلم تمامًا موقف زوجي الداعم لي دومًا، وأعلم أنه سيتولى مسؤوليات الأسرة في غيابي، وسيبذل ما بوسعه ليسير كل شيء على ما يُرام.
ولكن يقين في الثانوية العامة، ولم يتبقَّ لها الكثير لامتحانات الوزاري، فكيف ستتدبر أمورها خاصةً وأنها الفتاة الأكبر في البيت الآن؟ أنا متأكدة بأنها ستضطر للقيام ببعض مسؤوليات البيت من تنظيف وغسيل وترتيب في الأوقات التي يغيب فيها والدها في عمله، لا بد وأن إخوتها سيساعدونها، ولكن العبء الأكبر سيكون عليها، فهل سيؤثر ذلك على دراستها؟ أضف إلى ذلك أنها حساسة جدًا، فكيف ستتدبر نفسيًا مع اعتقالي وغيابي عن البيت؟ هل سيؤدي ذلك إلى رسوبها؟
اقرأ أيضًا: غفران زامل وحسن سلامة: ميثاق مقدس لا يناله الاحتلال
وجويرية أيضًا، الأصغر (وآخر العنقود)، هل ستتقبل التغيير الكبير الذي طرأ على الأسرة وغدت مجبرة على التعامل معه رغمًا عنها؟ هل سيتآزرون معًا ليتجاوزوا هذه المحنة؟ لا بد أنهم قلقون جدًا عليَّ الآن، متأكدة من ذلك، خاصةً وأنهم جميعًا يعلمون بالمشاكل الصحية التي أعاني منها. لم يكن من سبيل أمامي سوى الاعتصام بحبل الله: (ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم). لم يفتر لساني عن الاستغفار والتسبيح والتهليل والحوقلة والاحتساب، والصلاة على رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، والدعاء والتفكر.
ترددت في ذهني كثيرًا الآية من سورة البقرة: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب." أشعرتني بسكينة عجيبة كان يصعب استشعارها في مثل موقفي. ألا إن نصر الله قريب، هو قريب بإذن الله، ولكن الأمر بحاجة إلى الصبر والثبات. "مستهم البأساء والضراء.. وزلزلوا..."
يا إلهي، ألهذا الحد؟ نعم! فماذا مسّنا نحن إذن؟ لا شيء مقابل ما مسَّ رسول الله والذين آمنوا معه، وهم قدواتنا في الصبر والثبات والمضي قُدمًا على طريق الحق طلبًا لرضا الله. رافقتني سيرة رسول الله، زيارته للطائف، والأذى الذي لحقه فيها عليه أفضل الصلاة والتسليم.
أصعدوني درجًا طويلًا وأدخلوني زنزانة ضيقة، عثرت في إحدى زواياها على حبة كلمنتينا مقشّرة وموضوعة داخل قشرتها، تناولتها، يبدو أنها قُشّرت منذ وقت قريب، أكلتها بنهم، ولم أُشغل نفسي بمزيد من التفاصيل حول نظافتها، فلا صوت يعلو فوق صوت الجوع، وعندما يرتفع صوت الجوع تخمد كل الأصوات الأخرى.
في العيادة الطبية، طلب الممرض من السجان فكَّ قيد يدي، أخذ ضغطي، ثم طلب مباشرة إعادة القيد، ناولني الممرض حبتي دواء للضغط والمعدة، وطلب مني أن أشربهما أمامه. طلبت كأسًا من الماء، فكيف أشرب الدواء بدونه؟ تجاهل طلبي، وتابع ترتيب أوراق كثيرة كانت تملأ المكتب أمامه.
أبقيت حبات الدواء داخل قبضة يدي، وأخذت أدقق النظر في أرجاء العيادة؛ كانت قذرة تنتشر الفوضى في جنباتها، رفوفها تكتظ بأوراق غير مرتبة، لا يليق بها أن تُسمى عيادة.
ما راعني أن الممرض يتحدث العربية بطلاقة، مثلي تمامًا، ولكن بلهجة تختلف قليلًا، أدركت أنه درزي من دروز الجولان. سألته: أين أنا؟ فقال: ألم يخبروك؟ أنتِ في سجن الشارون، سينقلونك إلى سجن آخر، لن تبقي هنا. أنهى عمله، واقتادني برفقة السجان في ممرات طويلة لا أتذكر تفاصيلها، ولكن ما لا أستطيع نسيانه أنني كنت بردانة جدًا، وكانت أرضيات الممرات تغرق بماء المطر.
كنت أجرُّ قيود قدمي في الماء، ثم ترتطم القيود ببنطلوني أثناء المشي، ومع تكرار الخطوات وطول المسافة أصبح بنطلوني مبتلًا، زادني البلل بردًا فوق البرد الذي يخترق عظامي ويوجعني. أصعدوني درجًا طويلًا وأدخلوني زنزانة ضيقة، عثرت في إحدى زواياها على حبة كلمنتينا مقشّرة وموضوعة داخل قشرتها، تناولتها، يبدو أنها قُشّرت منذ وقت قريب، أكلتها بنهم، ولم أُشغل نفسي بمزيد من التفاصيل حول نظافتها، فلا صوت يعلو فوق صوت الجوع، وعندما يرتفع صوت الجوع تخمد كل الأصوات الأخرى.
صليت ما فاتني من الصلاة جمع تأخير، دون أن أعرف اتجاه القبلة، ولكن الله يعلم بحالي. وجدت بطانية رقيقة على طرف برش (سرير السجن) معدني مكوّن من طابقين، على الطبقة العلوية فرشة رقيقة أيضًا، سحبتها ووضعتها على البرش السفلي، ولففت جسدي بالبطانية وتمددت.
لا أدري كيف غفوت، ولا مقدار ما لبثته في غفوتي، ولكني استيقظت على صوت المفتاح يدور في قفل باب زنزانتي، ذُعرت وهببت واقفة، فإذا بسجانين يقفان أمام الباب، قال أحدهما آمرًا: تعالي!
تقدمت للأمام، فأخرج قيودًا من جيبه ووضعها في يدي ورجلي، وسارا بي ممرات عدة وهبطا بي درجًا طويلًا. كان الظلام موحشًا رغم الكشافات الساطعة التي انتشرت في كل مكان. فتحوا بابًا وأدخلوني فيه وأعادوا قفله.
اقرأ أيضًا: زغاريد مؤجلة... أمهات رحلن قبل لقاء أبنائهن الأسرى
كانت زنزانة أخرى، أرعبني منظر بقع الدماء تنتشر هنا وهناك، على الأرضية والجدران، بُصاق مرضى، بقايا براز. المكان قذر جدًا، فتحة أرضية لقضاء الحاجة قذرة في إحدى الزوايا مقابل كاميرا مثبتة في السقف، ومصباح كهربائي برتقالي اللون مفتاحه من الخارج أُبقي مضاءً طوال الوقت. الزنزانة مغلقة تمامًا، لا نوافذ، لا فتحة للباب، لا أصوات. لم يكن فيها برش، فقط فرشة رقيقة لا يتجاوز ارتفاعها 4 سم، مغطاة بطبقة صلبة جدًا من بلاستيك أزرق قذر، وبطانية بنية اللون رقيقة وسيئة الرائحة ملقاة أرضًا بشكل عشوائي.
ثنيت الفرشة إلى قسمين وجلست فوقها واستندت إلى الحائط برغم قذارته، ولففت نفسي بالبطانية، ولا أدري كيف نمت. كانت ليلة كابوسية بمعنى الكلمة، نمت فيها بشكل سيئ، وهاجمتني كوابيس مخيفة، والتهمت عظامي ومفاصلي آلام الروماتيزم. كنت أستيقظ باستمرار، أحرّك رقبتي المتشنجة، أقف بصعوبة أحيانًا، أسير بضع خطوات، ثم أعود إلى جلستي السابقة وأنام... وهكذا.
أتساءل أحيانًا: هل أذَّن الصبح؟ أتيمم وأصلي ركعتي قيام في مكاني ذاته، ثم أعود للنوم. وعندما شعرت بأن وقتًا طويلًا مضى قررت أن أصلي الفجر. لا أدري كم مرّ عليَّ من الوقت حين حضر أحدهم وفتح قفل باب الزنزانة، ظهر أمامي سجان ومن خلف الباب أمرني قائلًا بعربية ثقيلة: قفي. صدعت بما أُمرت، وظننت أنه سينقلني إلى مكان آخر، لكنه اكتفى بسؤالي عن اسمي، ثم قفل الباب ومضى. ولم أكن على علم بشيء اسمه "العدد". كانت ليلة طويلة جدًا، صعبة، ألحّت عليَّ فيها أسئلة كثيرة بلا هوادة أو رحمة.

