ما زال وجه والدي يتراءى لي كل مساء، أراه جالسًا على أريكته الصغيرة، ممسكًا بكوب الشاي الذي يحبّه، يحدّثنا عن يومه بطمأنينة لا يشبهها سوى حضوره. كنت أعيش حياة هادئة تحت جناحه، لا أخاف شيئًا في الدنيا سوى فقدانه، وأتوسل إلى الله أن يطيل عمره ليبقى لنا نورًا وسندًا.
لكن في لحظة واحدة خُطف الرجل الحنون التقي، ابن مخيم جباليا، تاجر الفاكهة في سوقه العتيق، أبو البنات ورفيقهن، وحبيب الأطفال. لم يكن خسارة لنا وحدنا، بل خسارة للمخيم كله الذي صار رمادًا وهُجّر أهله.
عدنا إلى البيت نتشبّث بالأمل وننتظر أن نراه مجددًا بصحة وعافية، لكن سرعان ما جاء اتصال أخي يحمل إلينا الخبر المشؤوم: غيابه الأبدي. بكينا كثيرًا، وأمّي صبرت واحتسبت، عانقتنا وبكينا، وأوصتنا بالدعاء له مرارًا. كان والدي رجلًا قريبًا من القلب، لم يرفع صوته يومًا، يلبي طلباتنا ولا يرفض لنا طلبًا.
رحل أبي وبقي صوته في ذاكرتي، وبقي حضوره في كل زاوية من حياتنا. دُمّر المخيم والبيت، ومع ذلك ما زلت أنتظر أن أعود إليه لأرى مكان محل أبي، وإن كان هو والبيت والشارع والطريق قد صاروا ركامًا. للتواريخ الأليمة زاوية من حياتنا لا تُنسى مهما مر الزمن. ففي 3 مارس 2024 استُهدف منزل جيراننا، ليُصاب والدي سمير سالم الحسنات بسكتة قلبية أودت بحياته.
لم أستوعب ما جرى حين قالوا لي: والدك استُشهد. تجمّد كل شيء من حولي وذاب قلبي من الحزن، سقطت مغشيًا عليّ ودخلت في نوبة إنكار، كأن عقلي يرفض أن يُصدّق رحيله. أذكر ذلك اليوم جيدًا، بعدما نقلوا والدي إلى مستشفى كمال عدوان شمالي قطاع غزة، ركضت أنا ووالدتي وأختي بخطوات مذعورة نحوها نبحث عن بارقة أمل. وجدناه في العناية المركزة، والأطباء يحاولون إنعاشه بكل ما أوتوا من جهد.
عدنا إلى البيت نتشبّث بالأمل وننتظر أن نراه مجددًا بصحة وعافية، لكن سرعان ما جاء اتصال أخي يحمل إلينا الخبر المشؤوم: غيابه الأبدي. بكينا كثيرًا، وأمّي صبرت واحتسبت، عانقتنا وبكينا، وأوصتنا بالدعاء له مرارًا. كان والدي رجلًا قريبًا من القلب، لم يرفع صوته يومًا، يلبي طلباتنا ولا يرفض لنا طلبًا.
عاش معنا والدي الحرب في شمال غزة، فعشنا المجاعة معًا. كان مريضًا بالضغط والسكري والقلب، لكنه كان حريصًا على أن يصنع لنا الطعام رغم تعبه الجسدي والنفسي. يشتري لنا التمور ويبيعها بدلًا من الفاكهة التي اعتاد العمل بها، ويعدّ لنا تشكيلات من خبز العلف والقمح ليغيّر طعمه قليلًا فنستطيع أكله.
اقرأ أيضًا: فادي لم يهد.. وكل الطرق تؤدي إلي قهر الغياب
كان حنونًا على الأطفال، يوزع عليهم التمر الذي كان لدينا في أوج المجاعة. لم يلحق والدي أن يرى أحفاده إذ لم يتزوج أحد منا في حياته، لكنه كان حنونًا على أطفال الجيران والمعارف. وكان الصغار يقولون: “ياريت عمي سمير عايش، كان وزّع علينا تمر وأكل”.
كان يدلل أختي الصغرى ريمان، التي كانت تنتظره حتى عودته من العمل لإعداد طعام العشاء معًا. كانت تمازحه: “رح أعملك عشا يلا بس بدي نسكافيه وبسكويت”، فيضحك ويمشي إلى الدكان القريب ليشتري لها كل ما تريد، ويجلسان ليلًا يحكيان الحكايات القديمة.
أذكر أبي جيدًا وكأن المشهد حاضر أمامي الآن، حين نمر بجانب مكان عمله وهو يبيع الفاكهة. يبتسم لنا ويجهز من كل الأنواع ويُوصينا أن نضعها في الثلاجة وألا ننسى نصيب أولاد عمنا. ما زال صوته المميز يرن في أذني حيًّا لا يغيب. رحل الرجل الأحن على الإطلاق، رحل دون أن تجمعنا صورة واحدة أو حتى تبقى لنا صورة له. فقدنا كل شيء وما زلنا نفقد، نقف في طابور الموت منتظرين دورنا. لكنني لا أخاف الموت بعد الآن، فقد صار موعدًا مؤجلًا للقاء الحبيب… لقاء أبي.

