بنفسج

النزوح… اغتراب عن النفس قبل الوطن

الخميس 25 سبتمبر

النزوح في غزة
النزوح في غزة

إخلاء… مناطق قتال خطرة: توجهوا غربًا، توجهوا جنوبًا. نزوح بين خيار الموت أو الموت، بين الصمود المهدَّد بالخطر أو طلب الحياة! بين الخوف من الفقد والخوف من الحنين… لا وقت للتفكير في أخذ القرار الأصوب، لا صواب أصلًا هنا، ولا وقت حتى لتجهّز بعض متاعك، هذا إن كنت أصلًا لا زلت تملك متاعًا.

النزوح، انشقاق الروح من الروح. “الموت أرحم”. النزوح: “وين نروح؟” وكلّ الأماكن سيّان عدا بيتك... النزوح، اغتراب. اغتراب ليس عن أرضك وبلدك، ولا حتى عن بيتك، بل هو اغتراب عن غرفة نومك، عن دفء سريرك، عن ركنك الوثير، اغتراب عن صديقك المفضّل، وعن من تحب. اغتراب عن حياتك، عن فنجان قهوتك وأكلتك المفضلة، عن نبتتك الصغيرة على شباك غرفتك. النزوح اغتراب عن نفسك… النزوح غربة، وكلّ الحرب غربة. النزوح أن تحمل أحمالك وحدك، وأن تتكبّد عناء الحرب وحدك، حتى وأنت تسير بين آلاف الناس.

والحرب، أن تضمد جراحك وحدك، وأن تواسي نفسك وحدك، وأن تصرخ بصوتك بين مليارات الآذان، في زمنٍ كفيفٍ أصمٍ أخرس. مرّة ما، وقبل أن تتجاوز الحرب شهرها الخامس، تساءلتُ: أيّ النزوح أصعب؛ الأول أم الثاني؟ لكنّ الإجابة اليوم واضحة: يتعدّد النزوح ولا تتعدّد المشاعر. يُعاد الفعل لألف، ولكن المشاعر لا تُؤلَّف. في كلّ مرة ينجب القلب مشاعر جديدة، وإن كانت تحمل ظاهريًا نفس الاسم.

كلّ مرة تُصاب بالقلق والذعر والترقّب والخوف، لكنها ليست كما قبلها، وإنما تتضاعف وتكبر وتتضخّم في كلّ مرة. تتراكم فوق بعضها حتى نجدها في أنفسنا كائنًا لا نعرفه، يصارعنا ونصارعه. تكبر المعركة في قلوبنا، وتكبر الإبادة على الأرض، ويكبر معها الصمت والعجز. يتعدّد النزوح ولا تتعدّد المشاعر… حتى أنّك، كلّ مرة، ستعيد التفكير الذي لا وقت له، بين دوّامات من التساؤلات المتضادة: “ماذا لو اقتحموا المنطقة؟” “ليفعلوا ما شاءوا، وليشهد العالم أني أبيتُ الخروج وقضيتُ في بيتي”. “ماذا لو فقدتُ أحدًا من عائلتي؟” ماذا وماذا وكيف، بلا حدّ ولا نهاية.

لكن ماذا لو لم تفقد أحدًا من عائلتك، لكنك فقدتَ نفسك؟ ماذا لو تهتَ عنها في منتصف طريق النزوح؟ أو ماذا لو تركتها في بيتك؟ ماذا لو حملت كلّ أمتعتك ونسيتَ نفسك في زاويةٍ كانت لك ملجأً؟ وماذا لو عدتَ لتلتقط نفسك التي نسيت؟ أتراك ستجدها؟ أم دُفنت تحت ركام البيت؟ أم ربما فُقدت من مكانها فقط؟ أم غطّتها الأتربة والغبار وعوادمُ الصواريخ؟ أم أصابتها شظايا شوّهتها؟ وماذا لو أنك أصلًا حين غادرت تركتها مثقلة بالألم؟

النزوح، انشقاق الروح من الروح. “الموت أرحم”. النزوح: “وين نروح؟” وكلّ الأماكن سيّان عدا بيتك... النزوح، اغتراب. اغتراب ليس عن أرضك وبلدك، ولا حتى عن بيتك، بل هو اغتراب عن غرفة نومك، عن دفء سريرك، عن ركنك الوثير، اغتراب عن صديقك المفضّل، وعن من تحب. اغتراب عن حياتك، عن فنجان قهوتك وأكلتك المفضلة، عن نبتتك الصغيرة على شباك غرفتك. النزوح اغتراب عن النفس... 

لم تكن مشاهد العودة قبل ثمانية أشهر تختلف عن مشاهد النزوح قبلها أو بعدها، لكن المشاعر أيضًا تدركها وتميّزها عن بعضها، كأنّ الفرح يزيّن الصور الأولى، ويكسو الهمّ الصور الثانية. وحدها قلوبنا هي التي تعرف المشاعر من صورة!

النزوح، حرب. كأنّ الحرب تبدأ عند خروجك من بيتك. سيكون شعور الخوف في نزوحك مختلفًا عمّا لو كنت في بيتك، حتى مراحل المجاعة ستكون أشد وطأة في النزوح... الحرب لا تسرق الأرواح والأوطان فحسب، بل تسرق البيت والوقت، تسرق روتين يومك، تسرق استقرارك وأمنك، وتسرقك من نفسك.