بنفسج

فادي لم يهد.. وكل الطرق تؤدي إلي قهر الغياب

السبت 27 سبتمبر

أطفال الشهداء في عزة
أطفال الشهداء في عزة

مرّ عام وعشرة أشهر على فراقه، وما زال القهر يعتريني كلما تذكرت أنه لن يعود إلى البيت كعادته. أخبروني ذات يوم أنه فُقد، ثم وصلني خبر استشهاده عند بيتنا الذي ذهب ليراه في بني سهيلا شرقي خانيونس برصاص الكواد كابتر؛ فشعرت أن الدنيا تميد من تحتي، وانتابتني نوبة من الإنكار. ومنذ تلك اللحظة وحتى الآن، لم أعتد غيابه، لذلك سميت يوم الفراق «اليوم الأسود».

أنا إيمان شاهين. في 24 ديسمبر 2023 استُشهد زوجي فادي شاهين أبو نزار. لم أستطع التصديق أنا وأبنائي الأربعة: نزار، ريان، يحيى، محمد، وخصوصًا آخر العنقود ألما صاحبة الثلاثة أعوام، كانت تنتظر عودته كل ليلة وما زالت؛ فقد كانت مدللة والدها كونها ابنتنا الوحيدة. انهرت مع أطفالي؛ كان أكبرهم يريد أن يدفن نفسه بجانب والده لحظة مواراة جثمانه الثرى. مرّ قرابة عامين، لكنها تبدو لي كسنوات طوال من القهر الذي لا أفق له.

في الحرب فقدت كل شيء: الأمان والسكينة، والبيت، ورفيق الدرب الحبيب الذي تزوجته في عام 2008 بعد قصة حب دامت خمسة عشر عامًا حتى جاءت حرب الإبادة الجماعية. وبعد استشهاده كان المعيل لنا شقيقه، لكنه اُستشهد أيضًا.

منذ رحيل زوجي شعرت أن شيئًا داخليًا انكسر إلى غير رجعة. لم يكن فقده مجرد غياب، بل كان انهيارًا لحياتي بأكملها؛ تركني ورحل، وترك خلفه مسؤولية أكبر من أن أحتملها وحدي، في وقت ضاقت فيه الحياة، وضجت فيه السماوات بصدى صوت الموت المحقق.

واجهت الموت في كل لحظة برفقة أولادي. كنت أمشي باتجاه الخطر لا هربًا منه، بل بحثًا عن بقايا خيمتي التي أُحرقت وجُرفت. تشردنا أكثر من عشرين مرة؛ حملت أطفالي وقلبي المثقل، وانتقلت من مكان إلى آخر أبحث عن مأوى آمن، عن زاوية ينامون فيها دون أن يوقظهم دوي انفجار.


اقرأ أيضًا: حين ودعتنا المدينة: الحكايات الأخيرة قبل النزوح


كانوا يسألونني بعيونهم الصغيرة المرتجفة: «ماما، هل الموت قريب منا؟» لم أكن أملك الإجابة؛ كنت فقط أحتضنهم وفي داخلي بركان لا يهدأ من الحزن. يكررون السؤال عن أبيهم، يشتاقون له كثيرًا. نقلب صوره معًا لعل نوبة الشوق العارمة تهدأ، لكن هذا كله عبث؛ لا يزول الاشتياق. نزور قبره معًا كل فترة ونرتاح بحضره، ونتمنى لو أن كل ما حدث لم يحدث.

رحل فادي شهيدًا في المكان الذي أحبه، واحتضن تراب البيت الذي لم يكمل الطريق نحوه، ليعود إلينا محمولًا على الأكتاف، تاركًا خلفه وجعًا لا يُحتمل، وحلمًا بلا صاحب، وأولاد يشتاقونه في كل لحظة.