حين تتحول الأحلام البسيطة إلى معارك يومية من أجل البقاء، تبقى القصص شاهدة على التاريخ. فرح طلال محمود (23 عامًا) تروي لبنفسج تفاصيل حياتها قبل الحرب في غزة، والتحولات التي فرضتها الحرب عليها بين فقدٍ موجع وأملٍ متجدد للغد.
من دير البلح، وسط قطاع غزة ومركز المحافظة الوسطى، تخرّجت فرح في كلية فلسطين التقنية بتخصص وسائط متعددة ورسوم متحركة. كانت إنسانة بسيطة، تعيش حياة هادئة تبحث فيها عن الأمان والراحة بصمود رغم الحصار. تقدّس وقتها وتستغله فيما ينفعها ويقرّبها من أحلامها، وكان أعظم أحلامها أن تحفظ كتاب الله. تقول: “أكبر أهدافي وأغلى أحلامي أني أحفظ كتاب الله وأكون من أهله وخاصته، الهدف اللي كنت حاسة إنه رح يغير حياتي كلها.”
في غزة: أسئلة معلّقة

قبل الحرب بشهرين تقريبًا التحقت بحلقات تحفيظ القرآن، ومنذ أول يوم شعرت بالبركة تملأ حياتها، ووصفت تلك الأيام بأنها الأجمل في حياتها، حيث عرفت طمأنينة لم تعرفها من قبل، وشعرت أنها أخيرًا وجدت مكانها الصحيح.
إلى جانب حلمها الأعظم “حفظ القرآن”، كانت فرح تعشق التصوير، وتطمح إلى العمل في هذا المجال، إذ كانت ترى أن التوثيق بالتصوير يعبّر عنها وعن شخصيتها. وببركة خطواتها الأولى في طريق القرآن، جاءتها فرصة عمل بسيطة في مجال التصوير، كان ممتعًا ومليئًا بالشغف، وكانت تؤمن أنه سيكون بداية طريق مليء بالنجاحات. لكن الحرب باغتتها، فغيّرت كل شيء فجأة.
كيف تبدو الحياة عندما يتحول كل يوم إلى اختبار للبقاء؟ ماذا يعني الصبر حين يختبره الفقد والخوف والألم والنزوح يوميًا؟ وكيف تُصان الأحلام المؤجلة وسط هذا كله؟ – إنه الإيمان بالله، وبأقداره، وبأعمارنا المكتوبة منذ يوم وُلدنا هنا.
هذه الأسئلة، وإجاباتها، عاشتها فرح كما يعيشها كل الغزيين منذ بدء عدوان الاحتلال. تقول:
“أيام الحرب ما كان فيها يوم سهل، كل لحظة كانت اختبار جديد من الصبر والتحمل. أصعب لحظة مرّت عليّ كانت يوم قصفوا بيت جنبنا، اللحظة اللي قلبت حياتي فجأة، كل شي صار أسود قدامي.”
اقرأ أيضًا: نساء من رماد الذاكرة: حين تنجو الأجساد ولا ينجو القلب
في 9 نوفمبر 2023، يوم ميلادها الحادي والعشرين، كان لفرح ميلاد جديد. في ذلك اليوم أصيبت إصابة بليغة في قدميها نتيجة قصف إسرائيلي للمنزل المجاور، وبقيت شهرين عاجزة عن المشي. كانت أصوات الصراخ، والركام، والشظايا، والغبار مشهدًا لا يُمحى من ذاكرتها. تردف: “أول مرة بحياتي جربت إحساس إنك فجأة تفقد السيطرة على نفسك، وما تعرف إذا رح تطلع من المكان أو لا.”
تحكي فرح: “الفترة هاي كانت أصعب على نفسيتي من الألم نفسه، إني أضل قاعدة في مكاني، ما أتحرك، وأفكر كل يوم: لو صار قصف ثاني أو إخلاء وأنا هيك… كيف رح أقدر أقوم؟ وكيف رح أشرد؟ تساؤلات ما كانت تفارقني، وكلها مليانة خوف وحيرة.”
حين أغلق المخبز أبوابه
مع اشتداد الحرب وإغلاق المعابر، بدأت المجاعة تدق أبواب البيوت في غزة، وصار الحصول على الطعام تحديًا يوميًا يُضاف إلى الخوف من القصف والفقد. تقول فرح: “أسوأ شعور كان الجوع، لما يخلص الخبز من البيت ونضل أيام وأسبوع ما يكون عنا خبز… وتتمنى بس لقمة صغيرة تمسك معدتك وتقدر تكمل حياتك. ومع إغلاق المعابر، والدنيا كلها مسكّرة، تحس حالك محاصر من كل الجهات. حتى لو بدك تشتري، ما في مكان يبيع، المخابز كلها فاضية! ولو دخلت مساعدات، بتكون قليلة وما بتكفي.”
وكما عاش أهل غزة على فتات العدس، عاشت فرح وعائلتها على “خبز العدس” يوميًا. وعن حرمانهم من السكر والمذاق الحلو، قالت: “كنت أنبسط كثير لما أحصل على المكمل الغذائي الخاص بالأطفال، مش لأنه ضروري بس، لكن لأنه كان حلو الطعم وما في غيره متوفر، ومع هيك كان غالي على كثير ناس.” المجاعة كانت وجعًا آخر فوق وجع الحرب، ولعنتها ستلاحق كل من تسبّب في معاناة هذا الشعب الصابر.
الفقد في غزة: أرواحٌ غائبة وجدرانٌ مهدمة

لم تقتصر معاناة فرح على الإصابة والجوع، بل عاشت فقدًا كبيرًا؛ أصدقاء وأقارب ومعارف، وحتى أماكن كانت ملاذًا لها. مسجداها اللذان كانت تحفظ فيهما القرآن وتؤدي فيهما التراويح هُدما، فشعرت أنها فقدت جزءًا من نفسها.
وكان فقدان معلمتها “ولاء الجعبري” مع عائلتها من أقسى ما مرّ عليها. وصفتها بأنها: “إنسانة حنونة بكل معنى الكلمة، قلبها مليان رحمة، وكانت تعاملنا كأننا بناتها. كانت تحب تشوفنا مبتسمين وتوثّق لحظاتنا وإحنا مش ماخدين بالنا. لما فقدتها حسيت وكأني فقدت حضن الأمان اللي كنت أرجع له.”
ورغم كل ما مرّت به، ظلت فرح متأرجحة بين لحظات ضعف وقوة. تقول: “أحيانًا بفقد الأمل نهائي، بحس إني مش قادرة أكمل، وإنه الحمل صار أكبر من طاقتي… بس مرات تانية بحس إنه لسا في أمل، وبصير متيقنة إن ربنا مخبيلنا شيء كبير.” ولم تتوقف عن حلمها الأول: حفظ القرآن. ورغم اضطرارها للتنقل بين مراكز مختلفة أو التوقف أحيانًا، كانت تعود لتكمل الطريق.
فرح على إنستغرام: عندما كانت الحرب ميلادًا جديدًا للأحلام

وسط أصوات الانفجارات، جعلت فرح من الكاميرا وسيلتها لنقل تفاصيل حياة الغزيين. عبر حسابها على إنستغرام، وثّقت الأطفال في الخيام، والمساجد المهدمة، والمشاهد اليومية تحت القصف. لم يكن التصوير مجرد عمل، بل رسالة أمل وصمود.
ومع تزايد متابعيها، شعرت بعِظم المسؤولية، فعملت على أن يكون لحضورها أثر طيب. تروي: “من أجمل المواقف اللي حسيت وقتها إني تركت أثر، لما وحدة من البنات شافت فيديو عن التسميع الإلكتروني وبعتت تسألني عن معلمتي. أعطيتها الرقم، وبعد فترة رجعت تبشرني إنها ختمت القرآن كامل. وقتها حسّيت قديش كلمة أو مساعدة صغيرة ممكن تغيّر حياة شخص.”
ومن هنا، وُلدت عندها فكرة جديدة: لم تعد تحلم فقط بحفظ القرآن، بل أن تساعد الآخرين أيضًا على حفظه. ومع الوقت، بدأت تحلم بمتجر يحمل رسالة القرآن، يوفر منتجات تساعد الناس على الحفظ. تقول: “يمكن بالبداية فكرة المتجر تكون صعبة في غزة بسبب الظروف والغلاء، بس هذا ما وقفني. بالعكس، صار يدفعني أدور على حلول أبدأ فيها ولو من مكان ثاني، عشان أوصل لهدف أكبر وانتشار أوسع.” واليوم، بخطواتها الأولى، تؤمن أن حلمها سيكبر ويترك أثرًا حقيقيًا.
اقرأ أيضًا: حروبٌ أُخرى: ما لم يحدثكم به الإعلام عن غزة
في ختام حديثها، قالت فرح: “رسالتي إنه مهما كانت الظروف والألم، لازم نلاقي طريقة نوصل صوتنا ونترك أثر. محتواي مش بس صور وفيديوهات، هو حكاية صبر وإيمان ورسالة للعالم إنه الإنسان ممكن يصنع فرق حتى من أصعب الظروف. يمكن ما أقدر أغير الدنيا كلها، بس إذا أثرت في قلب شخص واحد فهذا بالنسبة إلي إنجاز العمر.”
تمنت فرح، كما كل أهل غزة، وقفًا حقيقيًا لإطلاق النار، لا هدنة مؤقتة. تريد نهايةً تتيح لها ولغيرها أن يعيشوا بأمان ويحققوا أحلامهم. “قد تؤخر الحرب الأحلام، لكنها لا تستطيع أن توقفها.” بهذه الكلمات اختتمت فرح حديثها، مؤكدة أن طريقها نحو حفظ القرآن وبناء متجر يحمل رسالتها سيبقى مستمرًا، طالما أملها بالله حيّ في قلبها.


